نبيهة لطفي

26 يونيو 2015

نبيهة لطفي .. لبنانية مصرية ومصرية لبنانية

+ الخط -
تضحك فيضحك وجهها كله دفعة واحدة، لا ترتيب ولا أولويات في وظائف الأعضاء، لا يسبق ثغرها عينيها، ولا عيناها ثغرها. كل ما فيها يشارك بالضحك، كأن الحيز الذي تشغله في الكون يتحول كتلة من إشعاعٍ يتسلل الى ما حوله، ويضيء مكامن الطيبة والوداعة في الأماكن الخفية من قلبها الرقيق، مثل قلب طفلة ظلت تعدو في بساتين صيدا، مدينة البراءة المثلى. هذا الوصف لا يليق بأحد سوى نبيهة لطفي، المخرجة اللبنانية التي سكنتها صفات الطيبة المصرية كلها، فصارت مصرية لبنانية، أو لبنانية مصرية، بلا أسئلة مضجرة عن معنى الهوية.

يبعد مخيم عين الحلوة عن مدينة صيدا كيلومترين، أو يزيد قليلاً. ولدت نبيهة لطفي في صيدا. وكنت في الخامسة من عمري، حين بدأت رحلتها إلى القاهرة وعالم السينما، بنجومه وحكاياته التي كانت مركز اهتمام العرب جميعاً. كان المخيم، حتى نهاية الستينيات، غيتو مغلقاً على نفسه والخوف. وكان سكانه اللاجئون ينامون ويصحون تحت سطوة مخفر الدرك اللبناني، ورهبة "المكتب الثاني" للمخابرات اللبنانية. كنا نخاف. وكأن خسارة البلاد فاتحة لخسارة الشعور بالثقة ونمو الرعب من أي سلطة، ومن أي مكان خارج المخيم، فكانت صيدا، بالنسبة لنا، نحن الصغار، مفتوحة على احتمالات التعرض للعنف والتمييز والتفرقة. كان يبدو علينا أننا لاجئون. هكذا فانكسار روح الجيل الأول مرآة لما يبدو على وجوه الصغار مثلنا. لا أدري ما هو الشيء الذي أخافنا آنذاك، ومن هم أولئك الذين كنا نخشاهم في صيدا. ربما لا شيء. وربما لا أحد، لأن الهشاشة وفقدان الأمل تجعلك تخاف من ظلك، حين لا شمس ولا ضوء إلاّ لماماً.
فتحت انطلاقة المقاومة الفلسطينية في لبنان، في نهاية الستينيات، نوافذ مشرعة على الأمل والثقة بالذات، وفتحت صيدا أبوابها الواسعة لنا. في تلك الفترة، تعرفنا على صيداويين طيبين، أسروا أرواحنا الهشة، بطيبتهم ومحبتهم وقربهم من أحلامنا البعيدة. كانوا أفراداً حزبيين وغير حزبيين، وكانوا عائلات اكتشفنا أن انغلاقنا على أنفسنا وخوفنا حال بيننا وبينهم. وكانت عائلة لطفي الصيداوية من بين هؤلاء الناس جميعاً الذين من حسن قدري أنهم صاروا أصدقائي القريبين. كان أولهم زياد لطفي، ثم عرب لطفي ومها لطفي، وزوجها الصديق حكم دروزة، وكانت نبيهة لطفي الغائبة الحاضرة التي كنا نتطلع إلى اللقاء بها، والتي كانت لها مكانة خاصة في قلبي، على الرغم من أنني لم أعرفها إلاّ في بداية السبعينيات في زيارة لي إلى القاهرة. وأعترف أنني لم أشاهد لنبيهة سوى فيلمها عن تل الزعتر (لأن الجذور لا تموت) ذلك أن أفلامها الوثائقية لم تعرض إلاّ في المهرجانات.
تعرفت إلى علي مختار زوج نبيهة المثقف السياسي المصري، وزارني في مكان سكني في لندن، يرافقه ابنهما عازف البيانو البارز ياسر في عام 1980، فتعرفت إلى إنسان يمتلك من شفافية الروح ما فسّر لي امتلاء روح نبيهة كل هذه السنين، بعد رحيله المبكر في عمر الثانية والخمسين.
رحلت نبيهة لطفي قبل أيام، وكنت التقيتها للمرة الأخيرة في القاهرة قبل ثلاث سنوات، في مناسبة أولى عند الصديقة العزيزة ليالي بدر، وثانية في منزل شقيقتها مها لطفي، وزوجها حكم دروزة. كانت متعبة، لكنها كانت تعمل على فيلم وثائقي عن صديقها المخرج المبدع الراحل شادي عبد السلام. قلت لها إنني زرت المعرض الذي أقامته مكتبة الإسكندرية عن رسوم شادي وتصميماته ولوحاته وأدواته وصوره. وكانت نبيهة تعد للسفر إلى الإسكندرية، لتصوير هذا كله في الفيلم الذي لم يتسن لي مشاهدته بعد.
لم أعرف أحداً اقترب من الحيز الجميل الذي كانت تشغله نبيهة لطفي في هذه الحياة، إلاّ وأحبها، وكان الجميع يجمعون على أن نبيهة لم تخرج من طفولة روحها، ولا براءة مدينتها صيدا، جارة المخيم.
8FEA7E0E-EB59-44E6-A118-ECD857E16E1C
نصري حجاج

كاتب ومخرج سينمائي فلسطيني، ولد في 1951، كتب في صحف في بريطانيا ولبنان والإمارات وفلسطين، أخرج عدة أفلام وثائقية، حاز بعضها على جوائز في مهرجانات دولية. نشرت له مجموعة قصص قصيرة في رام الله، وترجم بعضها إلى الانكليزية.