نافيد كِرماني والقاهرة التي صارت قاسية القلب

30 أكتوبر 2018
(نافيد كرماني، تصوير: لوكاس بارت)
+ الخط -

المشهد كان لافتاً بعض الشيء في قاعة "معهد غوته" في العاصمة المصرية، حيث اللقاء الذي نُظِّم الأسبوع الماضي مع الكاتب الألماني من أصل إيراني نافيد كِرماني (1967) لتقديم الترجمة العربية لكتابه "بزوغ الحقيقة؛ على دروب اللاجئين عبر أوروبا" الصادرة عن "دار صفصافة".

امتلأت القاعة عن آخرها بل فاضت عند أطرافها بالجمهور، في اللقاء الذي أداره الكاتب الصحافي محمد شعير، بمشاركة نرمين الشرقاوي أستاذة الأدب الألماني بجامعة عين شمس ومترجمة الكتاب، والكاتب عزت القمحاوي.

لكن اللافت أكثر أن نصف جمهور الندوة تقريباً كان من الألمان، ومن الشباب الألماني تحديداً، فيما بدا إشارة لمسار كتاب كرماني وأسئلته التي حاول أن يطرحها في ندوته، والتي ليس أقلها: ما هي أوروبا التي نريدها؟

صاحب "من نحن؟ ألمانيا ومسلموها" بسط أفكار كتابه الذي هو عبارة عن تحقيقات صغيرة لرحلته في تعقب مسار اللاجئين من الجنوب والشرق في توجههم إلى أوروبا، وكان كرماني نشر بعض هذه التقارير في صحيفة "دير شبيغل" الألمانية، حيث يمارس الكتابة ككاتب حر، كما يحمل درجة الأستاذية في الدراسات الاستشراقية.

يوضح كرماني أن كارثة اللجوء تمنح الألماني سؤالاً شائكاً ومهماً حول الهوية: ما هي أوروبا؟ يقول "إن مأساة اللجوء لأوروبا أضحت نقطة تحوّل في التاريخ الأوروبي بعامة، حيث سيتحدد إن كانت أوروبا كمشروع سياسي، مبني على التعدد، يمكنه الاستمرار أم لا"، ولا ينكر كرماني أن هناك مشكلات وقعت لكنه يقر أن تضخيماً جرى لتلك المشكلات من اليمين الأوروبي لاستغلال مثل هذه الحوادث كرصيد داعم في الانتخابات الداخلية.

يدلل كرماني على كلامه بالحديث عن الحكومة اليمينية للمجر، المعادية للأجانب بعموم، كيف أنها تركت اللاجئين يفترشون المتنزهات العامة ومحطات القطارات بلا تقديم أي مساعدة أو رعاية صحية، كي تسوء أحوالهم، فيندفعون بسبب من ذلك للاعتراض والتذمّر، ومن ثم يستشري الذعر منهم بين المواطنين المحليين كي يُجبروا على تبني رؤى الحكومة في عدم استقبال اللاجئين وطردهم.

وفي كتابه، كما في الحكاية السالفة، يركّز كرماني بصره على نشاطات الحياة اليومية للّاجئين، هذه التي قال عنها في ندوته إننا لا نراها في نشرات الأخبار، من مثل قساوة السير على الأقدام لعشرات أو مئات الكيلومترات في أجواء قارسة البرودة أو شديدة الحرارة، بلا زاد للطريق ولا أحذية مناسبة، حيث "مجرد زجاجة مياه يناولها أحدهم من سيارة عبر النافذة تتحول إلى هدية من السماء".

من صلب تخطّي قساوة هذه الأخطار بما يصاحبها من إجهاد بدني عنيف، يشير كرماني بألمحية شديدة إلى أنها هي الأسباب التي تجعل معظم طالبي اللجوء في أوروبا من الشباب صغير السن، يقول: "هؤلاء هم من ينجحون في تخطي العقبات والأخطار.....، ولأن هذه المسألة تجبرهم على ركوب القوارب المطاطية، والسير لمسافات طويلة لأيام، فإن حق اللجوء السياسي لأوروبا يمارس عن غير قصد عملية انتخاب للأقوى جسدياً، وكذلك للمعوزين، أي الفقراء الذين لم يعتادوا رغد العيش".

في ذات الصلة تقول مترجمة الكتاب إن كرماني لم يعمد أن يكون كتابه ذا بلاغة عاطفية، إنما هو ينقل ببساطة الصعوبات التي يعيشها اللاجئون. توضّح الشرقاوي أن "بزوغ الحقيقة" ينتمي إلى الريبورتاج الأدبي "هذا النوع غير الموجود بكثرة في الكتابة العربية، لكنه شهد كثافة مع ظهور كتابات المدونين السوريين عن خبرات اللجوء أو أحداث الثورة".

من بين هذه الكتابات القليلة عربياً كان كتاب الروائي عزت القمحاوي "العار من الضفتين؛ عبيد الأزمنة الحديثة في مراكب الظلمات" (دار العين، 2010) الذي قدّم فيه تجربة ما أسماه "طلب موت الأمل" حيث هروب الشباب المصري عبر البحر إلى أوروبا.

يقول القمحاوي إن هذه الهجرات الاقتصادية التي سبقت الهجرات العربية بسبب الحرب تكمن مفارقتها في أنها كانت تقتفي أثر ذات خط هروب الأموال من الشرق إلى الغرب، مضيفاً: "كتاب كرماني عن الهرب من الموت، لكن كتابي عن الهرب من موت الأمل، حين كان اللجوء المصري وعار موتهم في البحر مستمراً بسبب موجات الإحباط واليأس، الأمر الذي ظهرت بوضوح مؤشرات تراجعه أثناء ثورة الخامس والعشرين من يناير، بل على العكس من ذلك بات خط العودة إلى مصر مفتوحاً أملاً في رسم بلد جديد".

وفيما يخص المسألة السورية اتفق كرماني مع رؤية القمحاوي في أن الضفة الأخرى تتحمل كذلك المسؤولية. "الكارثة كان يمكن تجنبها" يقول كرماني، ويضيف "التظاهر بشكل سلمي استمر لثمانية أشهر، لم يكن هناك تسليح، لكن الثورة لم تجد دعماً أوروبياً في بدايتها".

يستدرك كرماني بالإشارة إلى تخاذل اليسار الأوروبي كذلك "ذلك اليسار اصطف جوار بشار الأسد، بحجة الوقوف في وجه الإمبريالية الأميركية، مع أن الثورة تنادي بكل القيم التي تنادي بها أوروبا". يوضح كرماني أن الدعم المقصود هنا ليس حديثاً عن تدخل عسكري، بل لجوء لأدوات تعطيل كالحظر الجوي والمقاطعة الاقتصادية وفرض عقوبات إلى آخره، "لكن التراخي سمح لآخرين مثل روسيا والسعودية وإيران بالتدخل، وساعد هذا ولا شك في ظهور داعش".

في ختام الندوة قدّم أحد الحاضرين من الجمهور المصري تعليقاً مفاده أن اللاجئين لا يحترمون القيم الأوروبية ولا طبيعة الحياة المتحررة هناك، بينما هو حين ذهب إلى أوروبا طالباً للعلم كان منفتحاً على الحياة مستكشفاً لها، وفيما احتد مدير الندوة على العجوز صاحب التعليق اليميني المتلفز ناعتاً كلامه بالفاشي، طالب بعض الحاضرين المصريين أن تُعطى للرجل الفرصة كي يتم كلمته.

ووجّه الروائي عزت القمحاوي كلامه إلى العجوز قائلاً: "إن من يذهب إلى أوروبا لاجئاً هذه الأيام مأزوم يعيش شرطاً إنسانياً صعباً، ولا يمكن مقارنة وضعه بحالة أصحاب البعثات الطلّابية أوائل القرن الماضي"، وهو الرأي الذي كرره كرماني نصاً، بينما ردت على العجوز المصري شابة ألمانية قائلة: "ليس من حقي الحكم على أي لاجئ بالقول إنه لا يستحق العيش بيننا".

"ألمانيا التي صارت رقيقة القلب على نحو غريب" - وهو عنوان الفصل الأول من كتاب كرماني- في تعليق الشابة الألمانية وهمهمات مثيلاتها، قابلت قساوة القلب وربما جلافته في شخص العجوز المصري، هذا الذي وإن كان يشكّل قلةً وسط حضور الندوة، إلا أنه يمثّل قاهرة قديمة، قاهرة العجائز التي هي قاسية القلب على نحو غريب.


السياسة والدين والحب
إلى جانب كتبه عن الإسلام والسياسة والأدب، كتب نافيد كِرماني الروايات. وضمن زيارته، السياسة والدين والحب قدّم محاضرة أخرى في القاهرة، أطلق خلالها الترجمة العربية لراويته "حب كبير" (دار كتب خان)، والتي أنجزها المترجم المصري أحمد علي.

الرواية تأتي في مئة فصل، وتستعيد التراث الصوفي للعشق عبر التاريخ، حيث يعيد الكاتب من خلالها فهم تجربته الخاصة واستعادة وتفكيك مشاعر الحب الأول التي عاشها مراهقاً مع فتاة تكبره عمراً.

دلالات
المساهمون