تنوّعت مساهمات ناصيف نصّار (1940) في الفكر العربي المعاصر بين الدراسات الفلسفية البحتة ووضع تصوّرات للواقع الاجتماعي. كل ذلك يظل منحصراً بين منطلقات منهجية وطموح عام لمجمل فكره، وهو ما ركّزت عليه ندوة تكريمه في تونس، التي شارك فيها كل من محمد بن ساسي وزهير الخويلدي ونعيمة الرياحي وتاجة بن علي والأخضر السلطاني وكريمة البريكي بقراءات في أعماله، وأدارها أستاذ الفلسفة في الجامعة التونسية، الطاهر بن قيزة.
إثر هذه المداخلات، تحدّث نصّار، تعقيباً على ملاحظة بأن كتابه "طريق الاستقلال الفلسفي" هو أهم أعماله، بأنه أقرب إلى أن يكون كتاب منهج، وأن أفكاره الأساسية توجد في "ثلاثية" (حسب تعبيره) "منطق السلطة" و"باب الحرية" و"الذات والحضور".
يقول نصّار إن كتاب "طريق الاستقلال الفلسفي" جواب على سؤال ضروري قبل الخوض في أي مشروع، هو: "كيف يمكن أن نتفلسف عربياً اليوم؟". يعتبر أنه ليس أول من طرح هذا السؤال، فقد تناوله مفكّرون عرب كثيرون قبله، مشيراً إلى أنه لم يجد جواباً مباشراً، إذ غالباً ما جرى دمج السؤال في تاريخ الفلسفة، لذلك كانت الإجابات ملتبسة بمواقف من هذا التاريخ (مواقف اتّباع أو نفور).
ويضيف نصّار "من أجل تطوير إجابة، درست تاريخ الفلسفة كلها، ووضعت منهجاً، بدأت بتعريف الفيلسوف، وكيف يتفلسف بالنسبة إلى أنماط التفكير الأخرى التي تنافسه في نشاط التفلسف، وحين نميّزها نستطيع أن نحدّد ما يقتضيه هذا النشاط، ومن هنا رأيت أن استقلال الفيلسوف هو أولاً استقلاله عن تاريخ الفلسفة، إضافة إلى استقلالات أخرى".
هنا، يرى نصّار "أننا في العالم العربي لا نرتكز على تقليد متّصل في الإنتاج الفلسفي، وتنحصر مرجعياتنا في زاويتين: من تراثنا، وهو من العصر الوسيط، ومن الفلسفة الغربية". يتابع "في نظري، أن هذين المرجعين بعيدان عنا، فلم نعد في العصور الوسطى ولسنا في الغرب وحداثته؛ نحنُ بينَ بينَ إذن، ومن هنا علينا أن نفكّر ضمن هذه الوضعية".
يتابع صاحب "الإيديولوجيا على المحك"، في السياق نفسه "النظريات الغربية أو التراثية ينبغي أن تكون مجرّد ملهمات، وليست هدفاً للاستنبات". وهو هنا يضيء جزءاً من مساره الفكري الخاص؛ حيث يرى أنه عاش "حالة هذا التمزّق الدائم مع مفكّرَين كبيرَين انغمس في أعمالهما، هما ابن خلدون وماركس".
لكن هذا التمزّق قد يتحوّل إلى حالة توازن، إذ يعقّب قائلاً "ابن خلدون منعني من أن أكون ماركسياً، وماركس منعني من أن أكون خلدونياً". كما يكشف نصّار عن مرجع ثالث له، وهو أفلاطون، والذي يرىأن "جمهوريته مثال رمزي يبغي العودة إليها فلسفياً واجتماعياً باستمرار".
في أعمال المفكّر اللبناني لم تكن الدعوة للاستقلال الفلسفي هدفاً في حد ذاتها، إذ يُطلق في أعماله اللاحقة دعوة لما يسمّيها بـ "النهضة الثانية"، وهي نقطة طرحها أيضاً في كلمته في تونس. ينطلق هنا من النهضة الأولى، التي هي بحسبه "واقع تاريخي دام قرابة مائة عام وانتهى، أما النهضة الثانية فهي لا تزال فكرة وأملاً".
يقول نصّار "ما أراه ضرورياً هو إسهام الفلسفة في بناء النهضة الثانية"، مشيراً إلى أن ثمّة تراكماً للفكر العربي على مدى العقود الأخيرة. يضرب مثلاً مفهوم الحرية الذي خصّص له كتاب "باب الحرية"؛ حيث أنه "في أدبيات النهضة الأولى كان فقط شعاراً جيداً ومفيداً، لكن لن نجد أي نص تأصيلي له. اليوم، صرنا نتّخذ مسافة نقدية من مثل هذه المفاهيم، ونعرف أن الحرية فيها أمراض ونكتب عنه وعن مفارقاتها، وهذا وعي لم يكن موجوداً".
في ختام حديثه، يشير نصّار إلى تحدّ يعترض "النهضة الثانية"، وهي أن "الفكر العربي اليوم يتحرّك ضمن أقلية". من هنا، يدعو إلى مزيد من التواصل بين المهتمّين بالفكر وبناء شبكات تواصل فكرية، تقرأ وتنقد بعضها بعضاً.