الباحث عن السكينة والهدوء، لن تفاجئه معروضات "غاليري دار الفنون" في الكويت، وهي تقدّم نفسها كلوحات يشكّلها فن الخط، ولكن بأسلوب مختلف عن فنون الخط الزخرفية، الملوّنة والمتوهّجة.
في حروفيات الفنان اليمني ناصر السوادي كلمة تتكرّر وتتشابك مئات المرات ضمن دائرة كبيرة، مكتوبة يدوياً، يغلب عليها اللون الأسود والرمادي؛ شبكة من الكلمات تحيط بما يشبه الكرة المعلقة في منتصف اللوحة، أو هذا هو الانطباع الأول؛ سكينة وهدوء تصمت حولهما أصوات الكلمات، هنا لا وجود لأصوات بل لأشكال، وهنا لا وجود لعبارات بل لكلمة واحدة هي ما يبث المعنى. وحين يقترب المشاهد، سيلمح كلمة واحدة مكرّرة، مثل "سلام" أو "كرامة".. وهكذا.
طريقة التعبير هذه التي يعمل عليها الفنان، المقيم في باريس منذ عام 2008، في معرضه الذي اختُتم أول أمس، لا تحتاج فيها المشاعر والأفكار أن تكون ذات صلة باللغة. لا قول هنا ولا ما يقال، بل صورة حروف عربية، كلمات وأشكال ذات منابع دينية وموسيقية، منمنمة وصغيرة لا تكاد ترى إلا حين نقترب منها؛ إذ تبدو من بعيد وكأنّها شبكة كروية، تذكّر بثريات معتمة معلّقة، ينبجس منها أحياناً شيء على هيئة شلال تنثال معه كلمات ونقط أشبه بنجوم ملتمعة.
حين نلتفت إلى المنحوتات الأقرب إلى الأرض من اللوحات المعلقة، نجد أمامنا أجزاء من كلمات على هيئة منحوتات حديدية سوداء، متشابكة على امتداد خط مستقيم بطول نصف متر أو أقل، تقوم على قاعدة خشبية.
للوهلة الأولى، تظهر هذه المنحوتات كأنّها خارج إطار المعروضات، أو هي لا تنتمي إلى عالم التشكيل لكن وجودها هنا وهناك، وطريقة توزيعها، يعيدانها إلى الإطار التعبيري نفسه؛ إلى مشاعر وأفكار لا تخرج عما تبثه الكتلة الشبكية من كلمة واحدة مكتوبة بخط اليد ومكرّرة إلى حدود لا نهاية لها. الكلمات هنا تتجسّد على هيئة قضبان حديدة ملتوية ومتشابكة ومتقطعة ولكنها مجدولة في حزمة واحدة مستطيلة.
هي أكثر من زخرفة، وأبعد من استكشاف جماليات مستترة للخط العربي، هي أقرب إلى الدعوة إلى السكينة والسلام حتى من دون أن يقرأ المشاهد كلمة واحدة من هذا النثار، أو يلتفت إلى ملصق صغير بجوار اللوحة يحمل اسمها. لا غضب هنا ولا عصبية ولا توهج ألوان، بل عتمة تغشى كل شيء وتحيط به، ثريات من هذا النوع هنا هناك، صامتة لا تقول سوى: دع كل شيء خارجاً، وتعال إلى ما يشبه ظلال أعماق معبد ينبثق فيه النور من داخل المرئيات.
درس الفنان السوادي (1978)، كما تقول سيرته، الفن المعماري، لا أكثر ولا أقل، وها هو يبتكر هنا معماراً من كلمات عماده كلمة واحدة لا أكثر أيضاً، وجسده كرة تمسك بها في الفراغ شبكة من تزاحم هذه الكلمة وتكرارها، بحيث تتحوّل إلى شبه كوكب على أرضية سماء سوداء، كوكب يبرز من صمت شبيه بالصمت الكوني.
نحن، إذاً، أمام فن كان يسمّى في غياهب القرن الماضي التجريد التعبيري، ولكن ممارسته كانت تتم بنثار من نقط وخطوط ملوّنة على القماش، كما كان الأمر مع أشهر هذا النوع من التعبيريين التجريديين؛ جاكسون بولوك.
أما هنا، فهو يتخذ وجهة أخرى؛ صحيح أنه ضمن أسلوب التنقيط والخطوط، ولكن ضمن نظام يلخّصه في كل اللوحات إلى الشكل الكروي، أو ما سمّيناه شكل الثريا المعلقة، الثريا المعتمة وسط التماع كلمات ونقط مضيئة. والتجريد التعبيري، مهما كانت أدواته، تشبه أشكاله التماعة الوحي؛ إنه يلمّح فقط، ولكل مشاهد أن يفسّر حسب ذاكرته أو ذاكرة ثقافته ومقاماتها.
اقرأ أيضاً: "بلازون" مروان رشماوي: بيروت كما هي الآن