"لو كنت أنا بطلة رواياتي لاحتجت أن أعيش عشر مرات حتى أحيا ما عشنه"، تقول الروائية العراقية ناصرة السعدون (1946-2020) معلّقة على من يعتبر أنها كانت تكتب حياتها فقط. لكن هذا لا يعني أن الكاتبة والمترجمة العراقية التي رحلت قبل أيام في عمّان، لم تطعّم الروايات بتفاصيل مما عاشت؛ فهنا تصف ألم مغادرة الوطن إلى المجهول، وهناك نجد صوراً تفصيلية لبغداد، ولمدن أخرى عاشت فيها مثل "بواتيي" التي درست في جامعتها الأدب الفرنسي، وعمّان (حيث استقرت منذ 2003 وحتى رحيلها)، أو مدن مرّت بها مثل رأس الخيمة. لكن حياة العراق نفسها ودورب آلامه هي التي نراها من خلال الشخصيات؛ حرب الخليج، سنوات الحصار، سقوط بغداد، سجن أبو غريب، عراقيون سافروا إلى غير رجعة، وآخرون ولدوا في المنفى، والحرب تلو الحرب.
إباء، راضية، شعاع، هذه بعض شخصيات نساء عراقيات من رواياتها التي أصدرت منها أربعاً؛ كانت أولاها عام 1986 تحت عنوان "لو دامت الأفياء"، تلتها "ذاكرة المدارات" 1989، و"أحببتك طيفاً" 2003 وفي السنة نفسها كتبت مسرحية "أحلام مهشمة" وكان موضوع هذين العملين الحب في بغداد الحصار. فالسعدون تلجأ إلى الحب كموضوع تبني حوله القصص المتشابكة عن العودة والاغتراب والحصار والمنفى؛ فمن خلال الحب تنكشف الهشاشة والخوف والفقدان والخسائر وكذلك اللحظات القليلة من الأمل.
انقطعت السعدون عشرة أعوام قبل أن تصدر روايتها الأخيرة "دوامة الرحيل" عام 2013، غياب تفسره في إحدى مقابلاتها بأنه كان نتيجة لألم فقدان العراق وسنوات احتلاله، والخوف من ألا ترى بغداد ثانية؛ تقول أيضاً: "بعد مغادرتي العراق هجرت الكتابة وانشغلت بالترجمة، إلا أن أحداث رواية "دوامة الرحيل" بقيت هاجساً يطاردني حتى قرّرت أن أكتبها، وأنهيت المسودة الأولى في ثمانية أشهر ومن ثم أعدت تنقيحها وطباعتها".
ترجمت الراحلة كتباً مرجعية مهمة من بينها "العالم المعروف" لإدوارد ب. جونز، و"الأسد الطائر: حكايات شعبية من جنوب أفريقيا" جيمس ألبرت هونيه، و"أمريكا بين الحق والباطل: تشريح القومية الأميركية" لأناتول ليفن، "تاريخ اليهود وديانتهم" لإسرائيل شاحاك و"أزهار الجليل" لإسرائيل شامير (اللذين يفككان الأيديولوجية الصهيونية). ومن أبرز ترجماتها "ذكريات أحلام وتأملات لـ كارل غوستاف يونغ"، وهو سيرة المحلل النفسي السويسري، و"لائحة اتهام فرانسو ميتران بارتكاب جرائم الحرب" لميشيل أندريه. كما قدمت إلى العربية عشرات الروايات المنقولة عن الفرنسية.
كانت السعدون قد ختمت مقابلة طويلة أجراها معها الكاتب والإعلامي مجيد السامرائي بقولها "الدنيا كالقنطرة نمشي عليها مرغمين ومتى ما وصلنا النهاية فتلك النهاية، أما ما نفعله من بداية الجسر إلى نهايته فتلك هي حياتنا"، وقد ملأت السعدون حياتها بالكتابة والترجمة وانهمكت أماً بطفليها وجدة بأحفادها الذين لم يبصروا العراق، فكانت السعدون بالنسبة إليهم ذاكرته.
أما الصداقات فجمعتها صداقات بالروائي جبرا إبراهيم جبرا، والمعماري معاذ الألوسي، والشاعر رشدي العامل، والنحات محمد غني حكمت، والكاتب علي طالب، ونالت عن روايتها "دوامة الرحيل" جائزة "كتارا للرواية العربية" عام 2015. وقد صرّحت عند صدورها بأن غزو العراق واحتلاله زلزل حيوات أهله، وإن حياة إباء السالم بطلة "دوامة الرحيل"، هي بعض من وجع العراق وخساراته. وبعض خساراته، الاقتلاع القسري من الأرض والبيت والأهل، وإعادة الزرع في أراض جديدة".