نار من نار لجورج هاشم: خديعة السينما

09 يناير 2017
فادي أبي سمرا في "نار من نار" لجورج هاشم
+ الخط -
يُقدِّم "نار من نار" (2017)، الفيلم الروائي الطويل الثاني للّبناني جورج هاشم، مداخل عديدة، تتيح لمُشاهدٍ مهتمّ إمكانيات مختلفة لتواصلٍ سينمائي مع عالمٍ مبنيّ على رغبة الاكتشاف. مداخل لن تُقدِّم أجوبة، ولن تمنح المتابع فهماً نهائياً لتلك العوالم، وجزءٌ أساسيّ منها معقودٌ على حالات وانفعالات. فـ "نار من نار" يمتلك براعة إثارة متعٍ سينمائية، يُحيلها كلّ مُشاهدٍ، بحسب مزاجه، إلى مرجعيات أو ثقافات أو حكايات، تعنيه أو تمسّه أو تُشكِّل نوعاً من بوح يريده.

التداخل بين الحكايات جزءٌ من الإمتاع. والإمتاع، إذْ يُصيب وتراً أو أكثر في ذات المُشاهد، يتحوّل إلى مساحة واسعة للتنبّه إلى أنماط الاشتغال السينمائي، من دون التغاضي عن قصصٍ تُسرَدُ بصُور مصبوبة في متتاليات محبوكة، تضع المتلقّي أمام نفسه وروحه وذاكرته وأحواله، قبل أن ترافقه إلى ما هو أعمق من الظاهر، وتأخذه إلى ما هو أبعد من المنظور.

والتداخل ينعكس في أشكال مختلفة: فهناك "فيلم داخل فيلم"، وهناك ذاكرة وتاريخ يُطلّان على راهنٍ مفتوح على أسئلةٍ، تبدأ بالذات والمخيّلة والعلاقات والحرب (وإنْ تبقى الحرب مرجعاً لمرحلة، لا مساحة للتأمّل فيها وفي أحوالها وتأثيراتها)، وتبدو كأنها لن تنتهي في معنى الهوية وارتباطها بالانتماء، والسينما وموقعها في ذاكرة فرد وتاريخ بلد، واللغات وامتداداتها في لهجات وبيئات. هناك، أيضاً، التلاعب الجمالي والسينمائي بالمُشاهد، كما بشخصيات الفيلمين المتداخلين أحدهما بالآخر، وبالممثلين الذين يؤدّون شخصياتٍ، بعضها مفتوح على الفيلمين، وبعضها الآخر يمارس لعبة الإغواء الجماليّ في الحدود الواهية والملتبسة بين المتخيّل والواقع، وبين الفيلم الأساسي (نار من نار) والفيلم المُصوَّر داخله (نار)، وبين الماضي والحاضر.

لكن التلاعب سيكون جزءاً من علاقات مهشّمة، وخديعة مُعاشة، وارتباطاتٍ تنكشف في حبّ أو رغبة جسدية أو قلق روحي أو ارتباك إبداعي. ارتباطات توثّق علاقات أناس ينتقلون بين الفيلمين، ويمارسون أشياءهم وأفكارهم ولعناتهم ومصائرهم كأنهم أبطالٌ مهزومون، أو كأن هزائمهم وهم، أو كأن التداخل بين الأشياء والحالات والعلاقات والانفعالات حيلةٌ سينمائية، يُتقن جورج هاشم صُنعها، بشغف حكّاء يعتمد على الصُوَر لسرد رواياته، أو بعشق صائغٍ يغوص في أحجاره الكريمة بحثاً عن أجمل كمالٍ ممكن، قبل أن يُعلِّق السينمائيّ اكتمال كماله، تاركاً للمُشاهد المحترف ترف المتابعة. فبهذا، يتفوّق السينمائيّ على الصائغ، عندما يُدرك كمالاً فلا يُنهيه قصداً، معطياً مُشاهده المحترف مزيداً من قلق الباحث عن خواتيم لن يقبل بها، ولن تُشفي رغباته.

يصعب على تعليق نقدي تفكيك عوالم سينمائية، قبل إتاحة المجال أمام "نار من نار" لعروضٍ، يُفترض بها أن تحظى بفرصٍ تجارية يستحقّها الفيلم. فالقول إن الروائي الطويل الثاني لجورج هاشم مبنيٌّ على تداخل سينمائي بين فيلمين، لن يكفي لفهم أبعاد الحالات والمناخات المُصوّرة. والإشارة إلى أن "نار" يستعيد ذكريات أناس يعرفون بعضهم البعض، ويعيشون مع بعضهم البعض، قبل أن تكسرهم ظروف أو حروب أو هجرات، يبقى ناقصاً، فيُصبح الإحساس الجمالي بالفيلم مرتبكاً. والتوقّف عند التداخل بين الشخصيات والأدوار والممثلين في "نار" و"نار من نار" معاً جزءٌ مفتوحٌ على تفاصيل وهوامش وأصول، يُراد لها أن تكون صورة نابضة بالسينما، وبشغف السينما.

فـ "نار من نار" مفتوح على عوالم عديدة: الحب والجسد والصداقات والحرب والسينما والهجرة والمنافي (الذاتية والجغرافية)، والموت والاحتفاء بالذاكرة أو مواجهتها، والتعرية (الروحية والمادية معاً)، والاغتسال (الفكري والنفسي)، والتفكيك الذي يتناول أحوالاً كثيرة في بلدٍ مثقل بأسئلته المعلّقة، وغليانه الغامض، وارتباكاته الدائمة، وخلاصه المؤجَّل. فيلمٌ يُضيف إلى السينما في لبنان معنى أجمل وأبهى للصورة الأصدق عن الذات والآخر، وعن الأزمنة ومصائبها، وعن السينما ومفاهيمها.

في دردشةٍ خاصّة معه، يقول جورج هاشم، ردّاً على شعورٍ بالعجز عن بدء حوار نقدي سجاليّ، بسبب انبهارٍ ذاتي بجماليات الفيلم وعوالمه: "ما تُخبرني به يُثبِت لي ما أسعى إليه. أؤمن أن الفيلم لا ينتهي إلّا عند وصوله إلى جمهوره وناسه، خصوصاً أن أفضل تقديرٍ لعملٍ أدبي أو موسيقي أو مشهدي، بالنسبة إليّ، يكمن في إحساس المتلقّي بأنّ الفيلم ملكه، وبأنه يصعب عليه أن يُشرِّحه. بالنسبة إليّ، هذا يعني نشوء صلة قربى، يُخلّفها الفيلم. أعتقد أن كلّ فنان يبحث عن "أقرباء" له، يظهرون بفضل فيلم، أو عمل أدبي أو موسيقي. أتذكّر نفسي عندما أشاهد فيلماً. أرى أنها الطريقة الحقيقية لتواصلٍ حقيقي مع الفيلم. ذلك أن أجمل ما في الأمر، عندما تكون سينيفيلياً، أن تستحوذك الأفلام، وأن تشعر أمامها بعدم استحالة منالها، أو فهمها، أو استيعابها".





دلالات
المساهمون