بين الثاني والعشرين من شهر تمّوز/ يوليو والتاسع والعشرين من آب/ أغسطس من عام 1987، كان الفنّان الفلسطيني ناجي العلي يرقد مصاباً بطلق ناري في مستشفى لندني قبل أن يغادرنا ويدخل في ليل الأبدية الطويل. ومع ذلك ما زلتُ على موعد معه. ليس موعد هذا اليوم أو ذاك، بل موعد كلّ يوم. ومنذ أن اقترحتُ عليه أن يتّجه إلى الأطفال ويرسم لهم، إلى بذور التكوين، والموعدُ قائم.
كان موجز الأمّة، ناجي العلي، يقترح التأجيل وينغمرُ أكثر في ملاحقة خطابات المشعوذين والكذبة من كل صنف ولون، في التعليق عليها، تفكيكها وإلقاء أضواء الوعي على حبائلها. وكم من خطاب فضح، وكم من حبائل كشف، وكم من ملحوظة رسمها في آخر هذا الخطاب أو ذاك، مكتوبة بالقلم الرصاص أحياناً وبالحبر الأسود في أحيان أخرى، حوّلها إلى فكاهة خشنة.
وأخيراً وفى بوعده. وكان وفياً بشكل مدهش؛ ظلّ طفلاً في العاشرة من عمره لا يكبر.
■
رسوم ناجي ليست كتابة بين السطور، بل هي الكتابة التي تمحو، فيبدو اليومُ يوماً آخر، وكأنّ الكونَ يتبدّل حين يطلع هذا المناخُ الغريبُ على وجه الأرض، وعلى كلّ زاوية، فتبدو مقدّساتهم ومطلقاتهم قمامة.
إنه النص ومرجعه في وقت واحد، يحتاجه الفقراء الذين لم يعرفوا المدرسة إلّا اسماً، ويحتاجه المنبوذون الذين لم يعرفوا من الوطن إلا حروفه. ناجي العلي هو المرجع والنص الخطير الذي يمحو ويحرّر بسلطة عجيبة لا تعرف من أين مصدرها؛ من التاريخ أم الناس، أم المثل، أم الثقافة، أم من كل هذا معاً.
سيمضي زمنٌ طويل قبل أن يولد فنان عضوي بهذا المستوى
وسيمضي زمنٌ طويل قبل أن يولد فنان عضوي بهذا المستوى، أن يولد شجر برّيٌ خارج سجون حدائقهم، هذا إن وُلد في هذه المساحة بين الماء والماء، هذه المساحة التي تكتظ أقفاصها بنبات الظلّ الخانق إلى أبعد مدى.
■
في ظنّي أنّ العبء الذي حمله ناجي هو عبء من مدّ يده إلى الريشة وهو يدرك تماماً أن ملايين العيون مسلّطة عليه، وأن ملايين المصائر متوقّفة على ما سيصوّره، هذه الملايين التي قد يكون فيها شهداء وأحياء وأمّهات وأطفال وآباء ومقاتلون.. كانت حاضرة في الذهن من المحال خيانتها.
بهذا المعنى كان ناجي ضميراً موجزاً... ويومياً، أي أشدّ خطورة من وثائق مكتبة، أو تنظيم سياسي، أو جماعة معارضة، أو صحيفة، أو مذياع، أو تلفاز... كان جهة. ونزوعاً مستمراً إلى ما هو أبعد... وأبقى... إلى جوهر ما فينا... إلى حلمنا الطويل بأن نصعد من عمق الجحيم فنغيّر ونتغيّر.
■
ما رفضه البنّاؤون سيصبح حجر الزاوية؛ بهذه البساطة استثار ناجي حقد البنّائين الذين جاء كل منهم بحجر، فإذا هي رمالٌ تتفتّت عند كل هزّة إعصار. وجاء كل منهم بنبوءة، فإذا هي زائفة عند كل اجتياح صهيوني لسنة من سنواتنا.
لم يوضع الفأسُ في أصل الشجرة، ولم يُلق في النار بالحطب اليابس، ولم يصبح الأواخر هم الأوائل كما كان يحلم ناجي. ولكنه كان مناخاً كاملاً يصعد إلى وجه الأرض... وقد يصل ولا يصل... ويكاد يتبدّل كل شيء. ومع ذلك لا يصل إلى أبعد من مساحات حلمه.
هل هو الذي لم يصل أم نحن؟
■
ستظلّ رسوم هذا المحرّر موجاً طاغياً يحاصر الكذبة والدجّالين ومنتحلي صفات المقاومين. فالمسرح الذي أقامه ناجي لأطفال الوطن العربي ليتفرجوا على قفص الوحوش، وليزيل الخوف من نفوسهم، مسرح لا يُمحى. لم يكن خيال ظلّ ولا تشبيه رسّام، بل كان واقعاً في أعمق تفاصيله وأكثرها مدعاة لعدم التصديق... لهذا السبب بالذات.
إنهم الأواخر الذين رفعتهم في مسرحك الفقير ليكونوا الأوائل
أكان عليه أن يعتذر عن برّيته وعدم ارتياحه للبيوت الزجاجية التي ارتاح فيها فنّانون وكتّاب وشعراء لم يكونوا سوى مخبرين حسبوا أنفسهم سادة الغابات؟ إنه لم يفعلها لسبب عميق، هو نفسه السبب الذي يجعل الملح عصيّاً على الفساد. لو فعلها هذا وذاك وأنا وأنتَ، لما كان لنا أن نأمل بسنة واحدة من سنوات الوطن، ولما كان لنا أن نأمل بميلاد أفق جميل في هذا المدى الشاسع. فكيف إذا اختلطت الأمور وهي مختلطة؟ وكيف إذا تبادل الممثّلون الأدوار؟ وكيف إذا ضاعت المعايير وافتقر الإنسانُ إلى مقياس يعرف به مسافات قلب ووطن؟
■
لم يوضع الفأس في أصل الشجرة بعد، ولا ألقي حطبٌ كثير إلى النار، وما زال سؤال الذين مضوا: "إذا ذهب ملحنا... فكيف نصنع؟".
إنهم الأواخر الذين رفعتهم في مسرحك الفقير ليكونوا الأوائل، وقلبت اللعبة، لعبة الفن والثقافة والسياسة، وأوقفتَ كل شيء على قدميه، فما ذنبكَ إذا شاهد الشياطين هزيمتهم على المسرح القائم، فاندفعوا ليحطّموا خشبة المسرح؟ ما ذنبكَ إذا اتّسع النهار بعد هذا لأشياء كثيرة كان يضيق عنها، واستيقظت ذاكرة الناس على دراما التكوين فعرفوا أنهم ليسوا في المسرحية إلّا سادتها؟ ما ذنب البداهة والبراءة إذا أصبح لليوم معنى وللأمس معنى، وما كانا من قبل إلا ردائين خاليين؟
■
وأنتَ في الطريق، وما عاد طريقاً بل فضاءً، لا يُعرف إن كنتَ سيّداً للماضي أم للحاضر، أم ذاكرة لما يأتي؟ وهل تحتاج إيثاكا التي نعود إليها إلى ذاكرة؟ إيثاكا/ فلسطين.. من سيكون ذاكرتها؟ لننظر جيداً إلى هذا التوق العظيم للتحوّل إلى ذاكرة. إنه مشهد لا يتّسع لعقلانية الربح والخسارة، ولا عقلانية إن ما يبدأ لا بد أن ينتهي. إنه مشهد يكون فيه للتاريخ سيطرة، للماضي والحاضر والمستقبل معاً. ليس تاريخ الفرد الذي يكيل المصائر بملاعق سنواته، بل تاريخ الجموع الذي تتضاءل فيه مسارب النمل وخطابات الجنادب وتوثب الغريزة للوصول بأي ثمن، ويتصاعد فيه رنين الأبدية.
لن يصلوا بالطبع، وأنت تعرف ذلك، أنت الذي شاهدت كيف يصنع أبناء الأرض الأسطورة حقيقة لا مجازاً، بينما هم يضيعون في المجاز. ألهذا كانت استعاراتك موجزة إلى أدنى خط ممكن، بينما كانت استعاراتهم واسعة إلى حد العبث وإطلاق الرصاص على حلمنا؟
الدهشة ممنوعة، دهشتك المثيرة، لأنها تكشف كيف يسير النهارُ مقطوع الرأس، وتلغ الأبجدية في دمائنا، وتنكشف الأردية عن خواء مطلق، وتقود شوارع المهرجان إلى مقبرة. ارفع دهشتك إذن إلى أبعد مدى، هذه الدهشة القومية، في وقت يُمنع فيه التعبير سلباً وإيجاباً، ويُكتفى فيه برقصة السعادين.
■
الدهشة ممنوعة، لأنها تذكّر بخيانة الطفولة، وسنوات الحلم، ونحيب المدن المحروقة، والطين الذي تحوّل إليه الأطفال والأمهات والآباء. لأنها تذكّر بدائرة متّسعة من الخسائر تبتلع الملايين المهدّدة في وقتها... وجمالها... وعشبها.
أنَصفُ فنكَ بأنه فنّ الدهشة أم هو فن فك السحر وتحرير الفكر والمخيّلة؟ قبلكَ لم يتجاوز الفنّانون والشعراء التعاليم. لقد أعطوهم 99 غرفة مغلقة ومنحوهم حرية أن يتجوّلوا فيها ويكتبوا ما يشاؤون على جدرانها. ولهذا السبب ظل بكاء الأطفال ونحيب الأمهات وصمت الآباء بلا أبجدية، وظلّت فلسطين صمتاً أخضر كأنما خلّفته قيثارة محطّمة، وسمعنا أكثر من جوقة تنشد وترقص في الغرف المتاحة، وشاهدنا أولئك الذين مثّلوا أدوار المقتحمين لأبواب غير ممنوعة أصلاً. ولكنك قلبتَ القاعدة، واقتحمت الغرفة الممنوعة.
* شاعر وروائي وناقد من فلسطين