سافرت الشابة إنعام شرف، من الدوحة إلى نيس، مطلع الشهر لقضاء إجازتها السنوية بصحبة عائلة صديقتها. توجهت مع عشرات الآلاف إلى شارع "برومناد ديزانغليه"، مساء الرابع عشر من يوليو/تموز، لحضور الاحتفالات بالعيد الوطني الفرنسي على الرصيف الشهير بالمنتجع الساحلي الهادئ، لكنها لم تكن تدري أنها ستعيش تجربة غاية في القسوة، باتت محفورة في ذاكرتها.
تروي شرف، التي تعمل في معهد الدوحة للدراسات العليا، لـ"العربي الجديد"، وقائع الدقائق الدموية في نيس، قائلة: "غادرنا مطعم الشاطئ بعد دقائق معدودة من انتهاء الألعاب النارية التي دامت نحو 30 دقيقة احتفالاً بالعيد الوطني الفرنسي، لنعتلي مع آلاف المحتفلين رصيف الإنكليز (La Promenade des Anglais)، توقفنا عند أحد باعة السكاكر المنتشرين على الرصيف لنشتري شيئاً للصغيرتين. كانت الساعة حوالي العاشرة والنصف، عندما بدأ الصراخ يتعالى من حولنا وأحد رجال الشرطة يحاول إبعادنا عن الرصيف باتجاه الخلف".
وتضيف: "كنت متجمدة في مكاني؛ أنظر إلى الشرطي وإلى الجموع المرتعبة من حولي محاولة أن أفهم ما يحدث، فجأة مرت الشاحنة من أمامنا، سنتيمترات قليلة تبعدنا عنها. لشدة سرعتها وقربها، ارتمينا أنا وصديقتي وطفلتيها إلى الخلف، ومن ثم وقفت. لم أكن أستوعب ما يحدث، لكني رحت أتابع بعيني مسار الشاحنة التي واصلت السير مسرعةً على الرصيف، والتي كانت تتمايل يميناً ويساراً".
وتتابع: "بدأت أتابع ما يظهر من حولي يسارا ويمينا، على بعد عشرة أمتار ربما، رأيت كيف انقلب الفرح فجأةً إلى مأساة، كيف تحولت الضحكات إلى بكاء وعويل، وكيف تحول إنسان كان يلهو قبل دقائق إلى جسدٍ مذبوح ملقى على قارعة الطريق".
"للوهلة الأولى، لم أدرك أن المنتشر من حولي أجساد بشر مغمورة بالدماء، فالصورة الأولى التي استطاع عقلي تقبّلها هي صورة خراف تم ذبحها، وكأن عقلي الباطن يرفض تصديق ما تراه عيناي. لكني عندما استفقت من لحظات الدهشة والذهول، وبعد أن أفقت من صدمة الصراخ والعويل الذي كان يملأ المكان، والرعب المرسوم بسواد الليل على الوجوه، أدركت لحظتها أن تلك الأجساد على الأرض ليست إلاّ بقايا بشر تحولوا خلال ثوانٍ إلى أشلاء"، تقول إنعام شرف.
وتوضح: "انتشر الرعب بين الجموع، البعض فقد وعيه، والبعض الآخر افترش الأرض يصرخ ويبكي ويهذي ذهولا، كثيرون أصابهم قيء مفاجئ، كنا في مكان يخيل إليك أن وباء حل بالبشر المتواجدين فيه".
وتضيف: "لا توجد كلمات تصف بشاعة اللحظة، لا سيما وأنت تمشي بمحاذاة جثامين أناس كنت قبل قليل تشاطرهم الفرحة. أطفال كانوا قبل دقائق يلعبون ويمرحون على هذا الرصيف جيئةً وذهابا بكل ما فيهم من براءة الطفولة، تحولوا في ثوانٍ معدودة إلى أشلاء. تتعرف إلى وجوه البعض، والبعض الآخر أصبح بلا ملامح واضحة".
وتروي: "بين الساعة العاشرة والحادية عشر ليلاً، بدأ الأمر وانتهى. في العاشرة كانت النخوب ترتفع وصيحات الفرح والضحكات تتعالى، كانت العيون المبتسمة تتابع الألعاب النارية. وعند الحادية عشرة، انطفأ كل هذا الوهج والفرح لتحل محله صيحات الرعب والبكاء والألم".
وتقول: "رغم مرور أسبوع على الواقعة الدامية، لا زلت أستذكر صورا بشعة، لا زلت لا أتقبّل أن ما شهدته بعيني حدث بالفعل، لا أعرف كيف أتخلص من الذكرى، وقد انتبهت السلطات الفرنسية للأمر مبكراً، ومن اليوم الأول انتشرت فرق الدعم النفسي لمساعدة من تعرضوا للصدمة في مكان الواقعة، أنا قابلت مساعدا نفسيا على مدار يومين، ساعدني ومنحني طرقا ونصائح أستطيع من خلالها التعايش مع الموضوع، من ضمنها ضرورة العودة إلى المكان مجددا، وهذا ما فعلته، وأزعم أنه ساعدني بعض الشيء على تجاوز الأمر رغم أنه كان مؤلما جدا وذكّرني بكل ما عشته هناك ليلة الدهس".
وتختم روايتها قائلة: "لا شك أن ما يحدث في سورية كل يوم وعلى مدار الساعة، لا يقل فظاعة وبشاعة عما حدث في نيس، لكن السؤال الذي يطرح نفسه اليوم، لماذا هذا الإرهاب يلاحقنا أينما ذهبنا، لماذا يدفع الأبرياء ثمن هذه الحروب الدامية، ألم نكتفِ؟ وإلى متى؟".