لطالما حاول الشاعر العربي، إعادة التعرّف على المكان بعد أن أصبح أطلالاً، قد يراها "تلوح كباقي الوشم"، وقد يسأل إن "غادر الشعراء من متردم؟" وربما يطلب من الأمكنة أن تتكلم وتفسر، وهو بذلك عائد يريد أن يدرك أسباب الفقدان، فالشاعر العربي عائد أبدي إلى اللامكان، فنّان بلا وطن قبل أن يكون هناك من منفى؛ "غني عن الأوطان لا يستفزني إلى بلد سافرت عنه إياب" (المتنبي).
لكن ما الذي يفعله خطاب الترحال المكاني والزماني في الشعر حقاً سوى أنه ينفي صاحبه باستمرار عن المنفى نفسه، ومن خلاله أوجد الشعراء العرب تاريخياً أمكنة في قصائدهم والتجأوا إليها.
وربما يكون في تجربة الشاعرة الفلسطينية الأميركية ناتالي حنظل، في مجموعتها "شاعرة في الأندلس" امتدادات لاواعية لهذا التقليد الشعري العربي القديم، النابع في حقيقته من فقدان المكان الأول وما كان فيه وما كان من الممكن أن يكون فيه من ذاكرة، بل إن حنظل تعرّف عن نفسها في موقعها الإلكتروني بأنها "جوالة" أو "مترحلة" وهذا يقربنا من نصها وثيق الصلة بفكرة العابر والمقيم، والعائد ومن تستحيل عودته.
صدرت مجموعة الشاعرة (1969) مؤخراً عن دار "تكوين" بترجمة الشاعر والناقد السوري عابد إسماعيل، الذي يقول في مقدمته: "عاش لوركا في مدينة مانهاتن بين عامي 1929-1930، ونُشرت قصائده عن المدينة في ديوانه "شاعر في نيويورك"، الذي ظهر بعد وفاته عام 1940. وهنا، وبعد مرور ثمانين عاماً على رحلة لوركا إلى أميركا، تذهب الشاعرة من نيويورك إلى إسبانيا، لتكتب ديوانها "شاعرة في الأندلس"، وكأنها تبتكر رحلة موازية، فيها الكثير من رجع الصدى الأندلسي الذي نجده في صوت لوركا، الذي اختطفته الحرب الأهلية، بعد أن أغنى الشعر الإنساني بقصائده ذات النبرة الغنائية الفريدة".
إنها تجربة للعودة بمعناها الإنساني الكبير، وهذا مفهوم بالنسبة إلى حنظل الفلسطينية التي وُلدت ونشأت في المنفى وارتبطت العودة كمعنى لديها بالوطن الأم المحتل، وهي اليوم تقوم بتجربة أن تكون سواها، فكأنما الشاعر القتيل يرى اليوم بعيني شاعرة حيّة.
لربما يكون هذا جزءاً أساسياً من التجربة، ولربما قصدت الشاعرة شيئاً آخر تماماً، فمغامرة ناتالي مليئة بالرموز والاحتمالات، تكتب "من يعيدُ كتابةَ الكلماتِ المائلة/ شكلَ المكان الذي تركتُهُ خلفكَ/ جسدك الذي يصوغُ الهواءَ/ ناحتاً فضاءً ثابتاً؟" والجواب المستتر لهذا السؤال أنها هي من تقوم بإعادة كتابة الكلمات.
سنقرأ لحنظل "صوتي يحتضنُ الصوتَ الآخرَ- العربية ثم الإسبانية"، ترجع الشاعرة إلى ما هو أبعد من زمن لوركا (1898-1936) نفسه الذي تتبع طريقه، تسافر إلى الأندلس، إلى لحظة من القوة العربية والجمال الشعري والثقافي والاجتماعي، فتدمج ثلاثة عناصر في سطر "هويتها العربية"، "ماضي المدينة العربي" و"هوية لوركا الإسبانية" في حالة احتضان أي تماه مع ماضي صاحب "الأغاني الغجرية".
يقول المترجم في مقدمته: "تقدّم حنظل رؤيا شعرية متكاملة للأندلس بوصفها حاضناً فريداً لفضاء حضاري، انصهرت في بوتقته أنماط فكرية وفلسفية شتّى. وقد نجحت الشاعرة في تقديم قصائد تجمع بين النثرة الوجدانية والترنيمة الصوفية، متكئة في بناء النصّ، على دراية بالتراثين العربي والعالمي. درايةٌ منحتْ قصيدتَها طاقةً على الإغواء والجذب والبهجة".
غادرت شاعرة نيويورك إلى البقعة التي تركها قبلها الشاعر الإسباني وهناك مشت على خطاه تفتش عن أثر وتقرأ الإشارات وتقارب بين شعره وبين الأمكنة الواقعية اليوم وتسمّيها وتصفها أو تذكّر بعلاقة لوركا بها؛ تكتب: "على الحائطِ الداكنِ نافذةٌ مفتوحةٌ/ إنّها منطقةُ "بلازا دي لا ميرسيل"/حيث وُلِدَ ورأتْ عيناهُ النّورَ-/ كيف سيرسمُ يومَ مولدِهِ/ أو يومَ تعميدِهِ/ في لا إيغليسيا دي سانتياغو".
بل إن صاحبة "حب وخيول غريبة" (2010) تترك إشارات للقارئ في آخر المجموعة حول هذه الأحياء والأزقة والمعالم؛ يقول المترجم إسماعيل: تمنحُ الهوامشُ في نهايةِ ديوان "شاعرة في الأندلس" فرصةً للقارئ بالتجوال الروحي في مدن الأندلس وضواحيها ومعالمها، عبر استرجاع عبقها وتاريخها، باعتماد سردٍ شيّق لا يقلّ متعةً عن القصائد ذاتها".
ويكمل "بل إنّ النصوص لا يكتمل معناها إلا بالعودة إلى هذه الهوامش والملاحظات والشّذرات، التي غالباً ما تربط النصّ بذكرى غائرة، تركت بصمتها في روح الشّاعرة ولغتها معاً".
تأخذ حنظل النص إلى نفس ملحمي أبعد حين تبدأ في الحديث عن جموع من الضحايا، منفيين وقتلى وجثامين، وهي وإن كانت تفكر ظاهرياً بضحايا فرانكو، لكنهم ضحايا كل الديكتاتوريات والاحتلالات: "قُتلوا باكراً/ تبادلوا القُبَلَ باكراً/ تسكّعوا في المدينة باكراً/ لن يغفروا للأرضِ، بعد الآن، ولن يغفروا لسَعاتِ النّملِ/ أو أشعّةَ الشّمس/ وهم ممتنّون للّذين يريدون/ أن يعيدوهم ثانيةً، من خلال معرفة أعمارِهم/ وأسمائِهم/ ووجوهِهم/ واستئصال الشَوكةِ/ من رمادِهم". يا لهذه الضحايا الممتنة! فالحقيقة التي تقولها حنظل هنا؛ لا يحتاج الضحايا إلى الاعتراف بهويتهم كضحايا وحسب، بل بإنسانيتهم كضحايا.
هذا الصوت المتنقل الخفي الذي تحمله الشاعرة، هل هو لوركا أم الغجري الذي يعزف في مقبرة، هل هو المتكلم أو المخاطب أم الغائب: "كغجريٍ/ طفتُ أصقاعَ الأرضِ/ وبخاصّة الظلال، وأنفقتُ حياتي بلا أغنيةٍ- يوماً وراء يومٍ أتسكّعُ في الطّرقات/ ولكن في هذه اللّيلة/ أغنيتي في نارِ المعسكرات/ على كلّ كمنجةٍ/ أغنيتي هنا/ مع بعضِ السّعادة/ وشيءٍ من السَلام".
إنه ذلك السلام الذي يعرفه الغجري في المقبرة، لكن في موضع آخر من المجموعة تسأل حنظل "هل يمكنُ للسَلام أن يجدَ الرّاحةَ/ بين أجسادٍ هامدةٍ/ لا تتحرّكُ". الغجري يجد السلام في الرقص وينسى أنه بين أجساد ميتة، أما الشاعرة فإن قصائدها في حالة مواجهة مستمرة: "لا يمكنُ أن تفرّ/ من الماضي أو العاصفة، الموت أو القلب".
لقد عاش لوركا طيلة حياته في حالة اغتراب مركبة كشاعر وثائر ومغاير، ويمكن اعتبار أن ناتالي حنظل استخدمت رحلة لوركا، للحديث عن تجربة الوقوع على هامش كل شيء، واستعادة شاعر انتزعت منه حياته، من خلال شاعرة انتزعت من مكانها الأم وزرعت قسراً في مكان آخر، وهي في قصيدتها تقف على طلل لوركا والأندلس وفلسطين معاً: "نلمس الأرض في كاتدرائية "لا مانكويتا"، ونقول: إن شاءَ الله، وننتظر أجراس الكنيسةِ/ لكي تذكّرنا بما انتهى عليه حالُنا".
___________
بيت لحم والعالم
تعيش حنظل في نيويورك وهي أستاذة في جامعة كولومبيا وإحدى أبرز الأسماء الشعرية الأميركية من أصل عربي. ورغم أنها نشأت وعاشت بين الكاريبي وأوروبا وأميركا إلا أنها تعتبر نفسها فلسطينية من بيت لحم.
من مجموعاتها: "حياة المطر" (2005) و"حب وخيول غريبة" (2010) و"شاعرة في الأندلس" (2012) الذي وصفته أليس ووكر بأنه شعر على درجة من العمق والوزن وأغنية شجن وحنين. ومن إصداراتها: أنطولوجيا "شعر المرأة العربية".