مدينة مغلقة، هكذا يمكن وصف وضع نابلس منذ تسعة أيام حتى الآن، مع انتشار آليات الأمن الفلسطيني في كل مكان، في حملة عسكرية مستمرة، وسقوط قتيل على يد الأمن لا تزال جثته في ثلاجة الموتى في المستشفى الحكومي في نابلس منذ الثلاثاء، مع الإعلان عن تشكيل لجنتي تحقيق في ظروف مقتله، واحدة حكومية وأخرى من المؤسسات الحقوقية، ما أوجد حالة كبيرة من التوتر في المدينة لا تقطعها سوى المواجهات بين الأمن والشبان الغاضبين من وقت لآخر، وبيانات الفصائل والأمن والمؤسسات بأنواعها.
بدأ الأمر مساء الخميس 18 أغسطس/آب الحالي، عندما نفذت أجهزة الأمن الفلسطينية اقتحاماً لحي في البلدة القديمة للقبض على ما سمتهم "مطلوبين للعدالة"، تم الرد عليها بإطلاق النار، ما أدى إلى مقتل رجلي أمن هما شبلي بني شمسة ومحمود الطرايرة. وبدأت الأمور تتدهور ليتبعها فجر اليوم التالي مقتل مواطنين هما خالد الأغبر وفارس حلاوة، قال الأمن إنهما قُتلا خلال اشتباك مسلح، فيما أكد الأهالي أنه تم اعتقالهما وتصفيتهما بعد ذلك، وبدأت مؤسسات حقوق الإنسان تجمع المعطيات والأدلة للتحقيق في الأمر.
أسئلة كثيرة يوجّهها المراقبون والمواطنون حول المسؤول عن قرار إرسال عناصر أمن إلى حي من أحياء البلدة القديمة يوم الخميس بعد العصر، أي الوقت الذي يشهد ذروة المتسوقين في أكثر الأماكن ازدحاماً في نابلس، لا سيما أن تصريحات الأمن اللاحقة كانت تفيد بأن الأمن كان يستهدف "عصابة خارجة عن القانون من عشرة أفراد"، ليحصل تبادل لإطلاق النار بين الأمن والمطلوبين للعدالة، ويسفر عن مقتل رجلي أمن، بقي أحدهما ينزف نحو ربع ساعة قبل أن تستطيع قوة أمنية مساندة الوصول إليه، وسط إطلاق كثيف للنيران.
توتر المدينة ازداد يوماً بعد يوم، قوات الأمن الفلسطيني انتشرت في كل مكان، في مشهد لعسكرة المدينة لم يألفه مواطنوها سابقاً، مع عمليات اقتحام للمنازل. وحسب ما أعلن المتحدث باسم الأمن اللواء عدنان الضميري يوم الأحد، فقد "صادر الأمن من داخل سراديب حديثة البناء في البلدة القديمة في نابلس بنادق أوتوماتيكية وقذائف مضادة للدروع ومسدساً وقنابل متفجرة محلية الصنع، فضلاً عن قذائف أر بي جي وصناديق مغلقة مليئة بالذخيرة". أما الأهالي ومؤسسات حقوقية، فأكدوا أن اقتحام الأمن للبيوت جرى وسط عمليات تدمير وتخريب للبيوت ومصادرة أوراق مهمة ومبالغ مالية، واعتقال أطفال دون 18 عاماً، ما زال خمسة منهم رهن الاعتقال حتى اليوم، إضافة إلى توقيف نساء لمدة تراوح بين يوم أو اثنين.
ظل التدهور الميداني والتوتر سيد الموقف في نابلس، وسط تصريحات أمنية متلاحقة تعبئ الشارع والأمن وتتوعد العصابة التي قتلت رجلي الأمن، والتي وصفها المتحدث باسم الأجهزة الأمنية اللواء الضميري بأنها "عصابة خطيرة خارجة عن القانون، وتطبّق أجندة إسرائيلية لتهديد الأمن السلمي الداخلي، ولا علاقة لها بسلاح المقاومة". إلى أن تم فجر الثلاثاء القبض على أحمد عز حلاوة، المعروف بـ"أبو العز حلاوة" وهو عنصر أمن فلسطيني يعمل على مرتبات الشرطة الفلسطينية (المباحث)، ويتهمه الأمن بأنه وراء مقتل عنصري الأمن شبلي بني شمسة ومحمود الطرايرة.
عندها أخذت الأمور منحى دراماتيكياً غير متوقع، إذ قام عشرات عسكريين الغاضبين من زملاء الشرطيين القتيلين، بضرب حلاوة وهو مقيد ضرباً مبرحاً في معسكر الجنيد بعد اعتقاله، في حضور بعض ضباط وقادة الأمن الذين أطلقوا النار لتفريق العسكريين الغاضبين لكن بعد فوات الأوان، إذ تم نقل حلاوة إلى المستشفى وأعلن عن وفاته إثر الضرب المبرح، حسب ما أكد محافظ نابلس أكرم الرجوب في تصريحات صحافية متطابقة للإعلام الفلسطيني صباح الثلاثاء 23 الحالي.
ويقول الخبير في الإعلام وحقوق الإنسان ماجد العاروري، في حديث لـ"العربي الجديد"، إن الأجهزة الأمنية فهمت الدعم الشعبي الواسع لحملتها الأمنية من أجل فرض الأمن والنظام باعتباره تفويضاً مطلقاً لها باستخدام القوة من دون مراعاة الشروط القانونية، لافتاً إلى أن "بعض التهديدات التي أطلقها مسؤولون أمنيون باستخدام القوة ساهمت بشكل ملحوظ في عدم الأخذ بالاعتبار قوة أجهزة الأمن، إضافة إلى تصريحات أطلقت أمام أفراد أجهزة الأمن في بيت العزاء، في وقت لم نسمع فيه عن تصريحات أمنية أو تعليمات من القيادة الأمنية تطالب الأمن بالانضباط عند استخدام القوة، وهذا ما فهمه بعض العسكريين بأنه إطلاق يدهم في استخدام القوة من دون مراعاة شرطَي الضرورة عند استخدام القوة أو التوازن في استخدامها".
ويعرب العاروري عن أسفه "لبعض التصريحات الرسمية التي صدرت ويمكن أن يُفهم منها تحريض وتعبئة على استخدام القوة"، معتبراً أن "الخطيئة الكبرى أنه لم يتم التوقف بجدية أمام ادعاء بعض أهالي القتلى في البلدة القديمة أن أحد أبنائهم قد قُتل بعد أن تم اعتقاله، فلم يُجرَ أي تحقيق رسمي أو حتى حقوقي في هذا الكلام، مما فُهم منه بأن الجو العام من جهة الدعم الشعبي وحماس القادة الأمنيين المبالغ فيه سيشكل حماية لأفراد الأمن تجاه أية مخالفة قد يرتكبونها"، لافتاً إلى أن بعض وسائل الإعلام خلطت بين دعم مجتمعي لفرض الأمن والنظام، وبين تفويض شعبي للأجهزة بإطلاق يدها في الحملة، مما ساهم في إيقاع أفراد الأمن في هذه الخطيئة الكبيرة التي هزت وجدان المجتمع الفلسطيني.
من جهته، يؤكد مدير الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان عمار دويك، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن الباحثين الميدانيين للهيئة قد بدأوا بجمع المعطيات والأدلة والاستماع للأهالي وشهود العيان، حول الاشتباه بإعدام الأغبر وفارس حلاوة فجر الجمعة على يد الأمن الفلسطيني، وما زال جمع الأدلة لإثبات ذلك أو نفيه جارياً.
حالة الغليان بدت السمة الواضحة للمدينة، واستحال إرجاع عقارب الساعة للوراء، فبدأ التدهور الميداني عبر مواجهات باتت تشهدها حارات البلدة القديمة بشكل شبه ليلي، من إطارات مشتعلة، إلى حواجز أمام الأمن الفلسطيني الذي يطلق قنابل الغاز المسيل للدموع بكثافة والرصاص الحي على المتظاهرين، وهناك سيارات عسكرية ووجود أمني مكثّف في أنحاء المدينة.
اقــرأ أيضاً
تعالت الأصوات، والتي كانت فردية في البداية، مطالبة السلطة الفلسطينية بإنهاء عسكرة المدينة، والكف عن بعض "الممارسات غير القانونية" من ضرب المحتجزين وإهانتهم، وعدم تخريب المنازل المقتحَمة، وأهم من ذلك فتح تحقيق مستقل بما يجري في نابلس. تبعتها استقالات جماعية للعشرات من كوادر وأنصار حركة "فتح" التي تعلم تماماً أن كل خطأ تقوم به أجهزة الأمن والسلطة الفلسطينية سينعكس على الحركة سلباً في نتائج الانتخابات سواء الجامعات أو النقابات أو حتى الانتخابات المحلية المرتقبة بعد أسابيع.
ويقول المحامي نائل الحوح ابن مدينة نابلس: "هناك تحفظ كبير على قيام الحكومة بتشكيل لجنة تحقيق بمقتل أبو العز حلاوة، لأن القانون أعطى صلاحيات التحقيق للنيابة العامة، وما قررته الحكومة اعتداء على صلاحيات القانون وتدخّل بعمل النيابة".
وكان رئيس الوزراء الفلسطيني رامي الحمد الله قد اجتمع بقادة الأجهزة الأمنية في 25 الحالي، وأطلعهم على مجريات عمل لجنة التحقيق بخصوص كافة الأحداث التي وقعت في نابلس، والتي يترأسها وزير العدل وتضم في عضويتها النيابة العسكرية والنيابة العامة، مؤكداً أنه "ستتم محاسبة المسؤولين عن الاعتداء على حياة وأمن المواطنين، بما يشمل أفراد المؤسسة الأمنية". لكن إعلان الحمد الله قوبل باستنكار من الحقوقيين والمحامين والمواطنين، والذين تساءل بعضهم: "إذا كان الحمد الله يشغل منصب رئيس الوزراء ووزير الداخلية في الوقت نفسه، علماً أن وزير الداخلية هو المسؤول عن الأجهزة الأمنية، فمن سيحقق مع من، وكيف ستحقق الحكومة مع نفسها؟".
وفي هذا السياق، يعلن عضو لجنة الحريات العامة في الضفة الغربية خليل عساف، أنه تم الاتفاق بين أعضاء لجنة الحريات على تشكيل لجنة تحقيق مستقلة تقوم بعملها بشكل واضح ومستقل، وأن تتم مراقبة لجنة التحقيق التي شكّلها رئيس الوزراء، داعياً "لاعتقال كل العسكريين الذين شاركوا بقتل حلاوة في مركز تجمّع الأجهزة الأمنية في نابلس".
فيما يرى الموجّه العام للهيئة المستقلة لحقوق الإنسان ممدوح العكر أن "لا مصداقية لأي لجنة تحقيق إذا لم تكن مستقلة".
لكن الأمور في نابلس لا تُحسم بهذا الشكل، لا بالبيانات ولا بعشرات الاجتماعات التي تجرى يومياً في الغرفة التجارية والبلدية وديوان آل حلاوة، والذين أكدوا أنهم لا يستقبلون المعزين بل المتضامنين، فتركيبة نابلس أكثر تعقيداً، وما جرى يزيد الأمور سوءاً، فعائلة حلاوة مصرة على دفن يليق بابنها ولن تذهب كما فعلت المرة الأولى لحل توافقي يقضي بدفن ابنها ليلاً حقناً للدماء، كما فعلت حين دفنت فارس حلاوة ابن شقيق أبو العز الأسبوع الماضي، بعد أذان المغرب.
كان مشهد الدفن الليلي في وجود مئات من عناصر الأمن غريباً في المدينة، ومع ذلك تم حقناً للدماء، لكن بعد مقتل أبو العز حلاوة على يد الأمن بالضرب المبرح، ترفض العائلة تكرار ظروف الدفن. يقول محامي العائلة محمد حلاوة لـ"العربي الجديد": "رضينا بدفن فارس ليلاً حقناً للدماء، وبعد أن توصلنا لتوافق مع الشخصيات الاعتبارية في المدينة يقضي بدفنه بعد المغرب، على أن يقوم أبو العز بالذهاب إلى منطقة نابلس الجديدة وتسليم نفسه، وهذا ما تم أمام شخصيات اعتبارية من الغرفة التجارية والبلدية، لكن قتل أبو العز ضرباً خلق واقعاً جديداً، ونحن لدينا طلبات محددة لن يتم الدفن إلا بموجبها".
ووفق المحامي حلاوة، فإن "العائلة تشترط دفناً لائقاً لحلاوة في النهار، واعتبار كل من قُتل في الحملة الأمنية التي شنّتها السلطة الفلسطينية شهيداً، وتقديم لوائح اتهام بحق كل من شارك في قتل حلاوة، لأن المتحدث باسم الأمن ومحافظ نابلس أكرم الرجوب اعترفا أنه قُتل ضرباً، وبالتالي هناك جناة يجب أن يتم تقديم لوائح اتهام من النيابة العسكرية ضدهم، وإرجاع كل ما قامت الأجهزة الأمنية بمصادرته من عائلة حلاوة، وإطلاق سراح خمسة أشخاص من العائلة كان أبو العز حلاوة قد قام بتسليمهم قبل أربعة أسابيع من الحملة على قضية أخرى من المفروض أن تنتهي بصك صلح عشائري يتم تقديمه للقضاء".
وما يجعل الأمر أكثر تعقيداً في نابلس، أن العديد من المطلوبين هم من رجال الأمن، فحلاوة يعمل على مرتبات الشرطة، وهناك العديد من الجرائم التي وقعت في الأشهر الماضية كان عناصر الأمن إما طرفاً فيها أو أن الجريمة نُفذت بسلاح الأمن، أو أن من نقل مطلوباً للعدالة كان رجل أمن، أو أن من خرج بمسيرة مسلحين محسوب على الأمن، الأمر الذي اعترف به المتحدث باسم الأجهزة الأمنية، بتصريحه لإذاعة "راية" المحلية في رام الله، أن "من بين الذين تم اعتقالهم منذ الشهر الفائت وحتى أمس عسكريين يعملون في الأجهزة الأمنية ومتهمون بالفلتان وأعمال غير قانونية".
ويحمّل مراقبون ما يجري في نابلس لسياسة طويلة من الصفقات مع الخارجين عن القانون، وفق خليل عساف. وعادة ما كانت هذه الصفقات تتم لمنع تفاقم المشاكل بشكل أكبر، ويكون قائماً عليها أحد قادة الأمن أو المحافظ أو رئيس الوزراء وعدد من نواب التشريعي، وتقضي بأن يتم إطلاق سراح عدد من المتهمين بعد تعهدهم بعدم تكرار ما قاموا به من مخالفات، وهذا يبرر لماذا وصلت كرة الثلج في نابلس إلى هذا الحجم اليوم.
اقــرأ أيضاً
بدأ الأمر مساء الخميس 18 أغسطس/آب الحالي، عندما نفذت أجهزة الأمن الفلسطينية اقتحاماً لحي في البلدة القديمة للقبض على ما سمتهم "مطلوبين للعدالة"، تم الرد عليها بإطلاق النار، ما أدى إلى مقتل رجلي أمن هما شبلي بني شمسة ومحمود الطرايرة. وبدأت الأمور تتدهور ليتبعها فجر اليوم التالي مقتل مواطنين هما خالد الأغبر وفارس حلاوة، قال الأمن إنهما قُتلا خلال اشتباك مسلح، فيما أكد الأهالي أنه تم اعتقالهما وتصفيتهما بعد ذلك، وبدأت مؤسسات حقوق الإنسان تجمع المعطيات والأدلة للتحقيق في الأمر.
توتر المدينة ازداد يوماً بعد يوم، قوات الأمن الفلسطيني انتشرت في كل مكان، في مشهد لعسكرة المدينة لم يألفه مواطنوها سابقاً، مع عمليات اقتحام للمنازل. وحسب ما أعلن المتحدث باسم الأمن اللواء عدنان الضميري يوم الأحد، فقد "صادر الأمن من داخل سراديب حديثة البناء في البلدة القديمة في نابلس بنادق أوتوماتيكية وقذائف مضادة للدروع ومسدساً وقنابل متفجرة محلية الصنع، فضلاً عن قذائف أر بي جي وصناديق مغلقة مليئة بالذخيرة". أما الأهالي ومؤسسات حقوقية، فأكدوا أن اقتحام الأمن للبيوت جرى وسط عمليات تدمير وتخريب للبيوت ومصادرة أوراق مهمة ومبالغ مالية، واعتقال أطفال دون 18 عاماً، ما زال خمسة منهم رهن الاعتقال حتى اليوم، إضافة إلى توقيف نساء لمدة تراوح بين يوم أو اثنين.
ظل التدهور الميداني والتوتر سيد الموقف في نابلس، وسط تصريحات أمنية متلاحقة تعبئ الشارع والأمن وتتوعد العصابة التي قتلت رجلي الأمن، والتي وصفها المتحدث باسم الأجهزة الأمنية اللواء الضميري بأنها "عصابة خطيرة خارجة عن القانون، وتطبّق أجندة إسرائيلية لتهديد الأمن السلمي الداخلي، ولا علاقة لها بسلاح المقاومة". إلى أن تم فجر الثلاثاء القبض على أحمد عز حلاوة، المعروف بـ"أبو العز حلاوة" وهو عنصر أمن فلسطيني يعمل على مرتبات الشرطة الفلسطينية (المباحث)، ويتهمه الأمن بأنه وراء مقتل عنصري الأمن شبلي بني شمسة ومحمود الطرايرة.
عندها أخذت الأمور منحى دراماتيكياً غير متوقع، إذ قام عشرات عسكريين الغاضبين من زملاء الشرطيين القتيلين، بضرب حلاوة وهو مقيد ضرباً مبرحاً في معسكر الجنيد بعد اعتقاله، في حضور بعض ضباط وقادة الأمن الذين أطلقوا النار لتفريق العسكريين الغاضبين لكن بعد فوات الأوان، إذ تم نقل حلاوة إلى المستشفى وأعلن عن وفاته إثر الضرب المبرح، حسب ما أكد محافظ نابلس أكرم الرجوب في تصريحات صحافية متطابقة للإعلام الفلسطيني صباح الثلاثاء 23 الحالي.
ويقول الخبير في الإعلام وحقوق الإنسان ماجد العاروري، في حديث لـ"العربي الجديد"، إن الأجهزة الأمنية فهمت الدعم الشعبي الواسع لحملتها الأمنية من أجل فرض الأمن والنظام باعتباره تفويضاً مطلقاً لها باستخدام القوة من دون مراعاة الشروط القانونية، لافتاً إلى أن "بعض التهديدات التي أطلقها مسؤولون أمنيون باستخدام القوة ساهمت بشكل ملحوظ في عدم الأخذ بالاعتبار قوة أجهزة الأمن، إضافة إلى تصريحات أطلقت أمام أفراد أجهزة الأمن في بيت العزاء، في وقت لم نسمع فيه عن تصريحات أمنية أو تعليمات من القيادة الأمنية تطالب الأمن بالانضباط عند استخدام القوة، وهذا ما فهمه بعض العسكريين بأنه إطلاق يدهم في استخدام القوة من دون مراعاة شرطَي الضرورة عند استخدام القوة أو التوازن في استخدامها".
ويعرب العاروري عن أسفه "لبعض التصريحات الرسمية التي صدرت ويمكن أن يُفهم منها تحريض وتعبئة على استخدام القوة"، معتبراً أن "الخطيئة الكبرى أنه لم يتم التوقف بجدية أمام ادعاء بعض أهالي القتلى في البلدة القديمة أن أحد أبنائهم قد قُتل بعد أن تم اعتقاله، فلم يُجرَ أي تحقيق رسمي أو حتى حقوقي في هذا الكلام، مما فُهم منه بأن الجو العام من جهة الدعم الشعبي وحماس القادة الأمنيين المبالغ فيه سيشكل حماية لأفراد الأمن تجاه أية مخالفة قد يرتكبونها"، لافتاً إلى أن بعض وسائل الإعلام خلطت بين دعم مجتمعي لفرض الأمن والنظام، وبين تفويض شعبي للأجهزة بإطلاق يدها في الحملة، مما ساهم في إيقاع أفراد الأمن في هذه الخطيئة الكبيرة التي هزت وجدان المجتمع الفلسطيني.
من جهته، يؤكد مدير الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان عمار دويك، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن الباحثين الميدانيين للهيئة قد بدأوا بجمع المعطيات والأدلة والاستماع للأهالي وشهود العيان، حول الاشتباه بإعدام الأغبر وفارس حلاوة فجر الجمعة على يد الأمن الفلسطيني، وما زال جمع الأدلة لإثبات ذلك أو نفيه جارياً.
حالة الغليان بدت السمة الواضحة للمدينة، واستحال إرجاع عقارب الساعة للوراء، فبدأ التدهور الميداني عبر مواجهات باتت تشهدها حارات البلدة القديمة بشكل شبه ليلي، من إطارات مشتعلة، إلى حواجز أمام الأمن الفلسطيني الذي يطلق قنابل الغاز المسيل للدموع بكثافة والرصاص الحي على المتظاهرين، وهناك سيارات عسكرية ووجود أمني مكثّف في أنحاء المدينة.
تعالت الأصوات، والتي كانت فردية في البداية، مطالبة السلطة الفلسطينية بإنهاء عسكرة المدينة، والكف عن بعض "الممارسات غير القانونية" من ضرب المحتجزين وإهانتهم، وعدم تخريب المنازل المقتحَمة، وأهم من ذلك فتح تحقيق مستقل بما يجري في نابلس. تبعتها استقالات جماعية للعشرات من كوادر وأنصار حركة "فتح" التي تعلم تماماً أن كل خطأ تقوم به أجهزة الأمن والسلطة الفلسطينية سينعكس على الحركة سلباً في نتائج الانتخابات سواء الجامعات أو النقابات أو حتى الانتخابات المحلية المرتقبة بعد أسابيع.
ويقول المحامي نائل الحوح ابن مدينة نابلس: "هناك تحفظ كبير على قيام الحكومة بتشكيل لجنة تحقيق بمقتل أبو العز حلاوة، لأن القانون أعطى صلاحيات التحقيق للنيابة العامة، وما قررته الحكومة اعتداء على صلاحيات القانون وتدخّل بعمل النيابة".
وكان رئيس الوزراء الفلسطيني رامي الحمد الله قد اجتمع بقادة الأجهزة الأمنية في 25 الحالي، وأطلعهم على مجريات عمل لجنة التحقيق بخصوص كافة الأحداث التي وقعت في نابلس، والتي يترأسها وزير العدل وتضم في عضويتها النيابة العسكرية والنيابة العامة، مؤكداً أنه "ستتم محاسبة المسؤولين عن الاعتداء على حياة وأمن المواطنين، بما يشمل أفراد المؤسسة الأمنية". لكن إعلان الحمد الله قوبل باستنكار من الحقوقيين والمحامين والمواطنين، والذين تساءل بعضهم: "إذا كان الحمد الله يشغل منصب رئيس الوزراء ووزير الداخلية في الوقت نفسه، علماً أن وزير الداخلية هو المسؤول عن الأجهزة الأمنية، فمن سيحقق مع من، وكيف ستحقق الحكومة مع نفسها؟".
وفي هذا السياق، يعلن عضو لجنة الحريات العامة في الضفة الغربية خليل عساف، أنه تم الاتفاق بين أعضاء لجنة الحريات على تشكيل لجنة تحقيق مستقلة تقوم بعملها بشكل واضح ومستقل، وأن تتم مراقبة لجنة التحقيق التي شكّلها رئيس الوزراء، داعياً "لاعتقال كل العسكريين الذين شاركوا بقتل حلاوة في مركز تجمّع الأجهزة الأمنية في نابلس".
فيما يرى الموجّه العام للهيئة المستقلة لحقوق الإنسان ممدوح العكر أن "لا مصداقية لأي لجنة تحقيق إذا لم تكن مستقلة".
لكن الأمور في نابلس لا تُحسم بهذا الشكل، لا بالبيانات ولا بعشرات الاجتماعات التي تجرى يومياً في الغرفة التجارية والبلدية وديوان آل حلاوة، والذين أكدوا أنهم لا يستقبلون المعزين بل المتضامنين، فتركيبة نابلس أكثر تعقيداً، وما جرى يزيد الأمور سوءاً، فعائلة حلاوة مصرة على دفن يليق بابنها ولن تذهب كما فعلت المرة الأولى لحل توافقي يقضي بدفن ابنها ليلاً حقناً للدماء، كما فعلت حين دفنت فارس حلاوة ابن شقيق أبو العز الأسبوع الماضي، بعد أذان المغرب.
كان مشهد الدفن الليلي في وجود مئات من عناصر الأمن غريباً في المدينة، ومع ذلك تم حقناً للدماء، لكن بعد مقتل أبو العز حلاوة على يد الأمن بالضرب المبرح، ترفض العائلة تكرار ظروف الدفن. يقول محامي العائلة محمد حلاوة لـ"العربي الجديد": "رضينا بدفن فارس ليلاً حقناً للدماء، وبعد أن توصلنا لتوافق مع الشخصيات الاعتبارية في المدينة يقضي بدفنه بعد المغرب، على أن يقوم أبو العز بالذهاب إلى منطقة نابلس الجديدة وتسليم نفسه، وهذا ما تم أمام شخصيات اعتبارية من الغرفة التجارية والبلدية، لكن قتل أبو العز ضرباً خلق واقعاً جديداً، ونحن لدينا طلبات محددة لن يتم الدفن إلا بموجبها".
وما يجعل الأمر أكثر تعقيداً في نابلس، أن العديد من المطلوبين هم من رجال الأمن، فحلاوة يعمل على مرتبات الشرطة، وهناك العديد من الجرائم التي وقعت في الأشهر الماضية كان عناصر الأمن إما طرفاً فيها أو أن الجريمة نُفذت بسلاح الأمن، أو أن من نقل مطلوباً للعدالة كان رجل أمن، أو أن من خرج بمسيرة مسلحين محسوب على الأمن، الأمر الذي اعترف به المتحدث باسم الأجهزة الأمنية، بتصريحه لإذاعة "راية" المحلية في رام الله، أن "من بين الذين تم اعتقالهم منذ الشهر الفائت وحتى أمس عسكريين يعملون في الأجهزة الأمنية ومتهمون بالفلتان وأعمال غير قانونية".
ويحمّل مراقبون ما يجري في نابلس لسياسة طويلة من الصفقات مع الخارجين عن القانون، وفق خليل عساف. وعادة ما كانت هذه الصفقات تتم لمنع تفاقم المشاكل بشكل أكبر، ويكون قائماً عليها أحد قادة الأمن أو المحافظ أو رئيس الوزراء وعدد من نواب التشريعي، وتقضي بأن يتم إطلاق سراح عدد من المتهمين بعد تعهدهم بعدم تكرار ما قاموا به من مخالفات، وهذا يبرر لماذا وصلت كرة الثلج في نابلس إلى هذا الحجم اليوم.