لم تختلف كثيراً بدايات الحداثة في المشهد التشكيلي التركي عن بقية حواضر المشرق العربي سواء تلك التي كانت خاضعة للسلطة العثمانية المباشرة حينها، أو التي خرجت عنها في وقت سابق. تركّز الجدل في تلك الفترة على العلاقة بين التراث والمعاصرة ضمن اتجاهات متنوّعة راوحت بين محاولة إقصاء طرف أو مصالحتهما في اللوحة. وعلى هامش ذلك، سجالات أخرى منها تلك المتعلقة بقبول المرأة كفنانة.
منذ مارس/ آذار الماضي، يحتضن "غاليري غلاطة للفن الحديث" في إسطنبول معرض "ميهري.. رسامة مهاجرة من العصر الحديث" ويتواصل حتى التاسع من الشهر المقبل.
يضمّ المعرض مجموعة مختارة من أعمال الفنانة التركية ميهري أجهابا (1886 – 1954) ووثائق أرشيفية ورسائل ومقتطفات من الصحف والمجلات حول سيرتها الشخصية وتجربتها الإبداعية.
يعود المنظّمون إلى إحدى الشخصيات التي كان لها تأثير كبير في أواخر الحكم العثماني باعتبارها أول امرأة تدرس الفن في بلادها. ويعد هذا المعرض محاولة جريئة لإعادة اكتشاف الكثير من تفاصيل حياة ميهري التي ظلّ جزء كبير منها غامضاً إلى اليوم.
تبدأ القصة مع ميهري راسم التي نشأت في بيت والدها أحمد راسم باشا الطبيب في الكلية العسكرية والمقرّب من السلطة، فتلقت مبادئ الرسم على يد الفنان الإيطالي فاوستو زونار الذي كان يعمل في البلاط السلطاني، وهناك سترسم أولى بورتريهاتها للسلطان عبد الحميد الثاني، قبل أن تنتقل إلى أوروبا لإكمال تعليمها.
بحلول عام 1914، عادت إلى إسطنبول لتكون أول مدرّسة ومديرة لـ"أكاديمية الفنون الجميلة للمرأة" رغم محاولات المؤسسة البيروقراطية معارضة تعيينها ثم قراراتها، خاصة في ما يتعلّق بإدخال رسم الموديل العاري ضمن مقرّرات الأكاديمية، وسيكون لها دور كبير في دعم مجموعة من الفنانات سيكون لبعضهن حضور كبير في المستقبل، مثل موزدان آريل، وغوزين دوران، ونازلي إيسفيت، وفخر النساء زيد.
في عام 1922، عادت ميهري إلى أوروبا وتنقلت بين روما ولندن ومدريد وفيينا منخرطة في عدّة منظّمات نسوية ضمن نهاية ما سمّي "الموجة الأولى" التي أفضت نضالاتها إلى منح حق الانتخاب والترشح والمساواة في الأجور في معظم بلدان القارة العجوز، وقد اتسمت حياتها في هذه الفترة بالصخب والبوهيمية، قبل أن تسافر إلى نيويورك عام 1927 لتستقرّ هناك حتى رحيلها.
عاشت ميهري في الولايات المتحدة في الفترة التي أعقبت الكساد الاقتصادي، لكنها استطاعت أن تواجه ظروفها الصعبة، لكن من خلال مسايرتها لمتطلبات سوق الفن الذي كان لا يزال متأثراً بمنظور استشراقي في تعامله مع الفنانين من العالم الإسلامي، ما اضطرها إلى إنتاج أعمال وفق هذه المعايير.
واصلت ميهري العمل والتدريس وافتتحت استوديو خاصاً. وتضمّن خبر نُشر في صحيفة "نيويورك تايمز" في أواخر 1928 عرض مجموعة من أعمالها في "غاليري جورج مازيروف"، كما عملت في تصميم أغلفة العديد من المجلّات حتى أربعينيات القرن الماضي، وهنا تشير وثائق المعرض إلى عدم صحة الروايات التي تقول إنها عاشت حياة فقيرة قبيل رحيلها عام 1954.