لم تكن معرفة مختصي الآداب الإغريقية بنتاج الشاعر ميناندروس (342 - 292 ق.م)، تتعدى الشذرات القليلة التي تعود إلى القرن الرابع قبل الميلاد، إضافة إلى بعض المقاطع في المراجع القديمة التي كانت تشير إلى أن ميناندروس عُدَّ من أعظم شعراء الإغريق والرومان بعد هوميروس وفيرجيل والذي نسبت إليه مئة ملهاة عرضت على مسارح أثينا.
كما اعتبر ميناندر - كما يسمى أحياناً - أول كُتّاب الكوميديا للمسرح اليوناني في مرحلة "الملهاة الأتيكية الجديدة"، والتي جاءت لتجدد في كتابة الملهاة كما ظهرت في مسرحيات أريستوفانيس.
وفي مطلع القرن العشرين، حظي الدارسون بمجموعة من اكتشافات لورق البردي في صعيد مصر، والتي حوت مشاهد كاملة من كوميديات ميناندروس. لكن الاكتشاف الأكبر من بينها كان العثور عام 1959 على عمل يكاد يكون كاملاً هو "كوميديا الفظ" أو "كاره الناس"، والتي أشرف المترجم والمختص باللغات اللاتينية واليونانية المصري عبد المعطي الشعراوي على ترجمتها، ونشرتها سلسلة "المسرح العالمي" الكويتية في عددها الأخير.
تجري أحداث المسرحية القصيرة في أحد أحياء مدينة أثينا، حيث يطلّ الإله "بان" ليلقي خطبة قصيرة، كأنما يصف المكان الذي ستجري فيه الأحداث. يدخل الفتى العاشق سوستراتوس مع تابعه خايراس حيث يشكل الحوار بينهما حول الفتاة الجميلة التي يقع في حبها سوستراتوس مجمل المشهد الثاني.
ويكون أول ما يصدم العاشق ما يتناقله أهل أثينا عن أبيها كنيمون "كاره الناس"، وهو شيخ نكدٌ غير اجتماعي، يبحث كما يبدو عن خصوصيته، ويعاني في محاولاته إبعاد الناس عن بيته ومزرعته البعيدة "لقد هربتُ بعيداً تفادياً للمارّة، لكنهم حتى في هذه المرتفعات البعيدة يطاردونني الآن أيضاً، يا للمناطق الآهلة بالناس"، يتذمر مراراً، ويتشاجر مع طاهي المعبد "سِيكون"، الذي يزوره طالباً آنية لطبخ القرابين، ومع جاريته العجوز "سيميخي"، ومع عاشق ابنته حين يصادفه في الطريق.
يطرح ميناندروس في هذا العمل الفرق بين فعلين أو بين طباع العزلة والانطواء، والحد الفاصل بينهما؛ بين من يريد فعلاً الابتعاد بحثاً عن عزلة خاصة، ومن يكون دافعه في السعي لها كره الناس وبغضه لهم.
على أن بعض النقاد يُحيلون رمزية "كنيمون" كاره الناس إلى شخصية القائد الإثني "تيمون"، كاره البشر الحقيقي والنموذجي، الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد، وأن جوهر الصراع الأساسي في العمل يكمن في توجيهه النقد لطبيعة العلاقات الاجتماعية في أثينا.
فمن خلال علاقة العاشق ميسور الحال والفتاة الجميلة الفقيرة، ينتقد ميناندروس عادة المجتمع آنذاك الذي يعيب اجتماع الفتاة بالرجل قبل الزواج، إضافة إلى نقد مبكر لطبقية المجتمع التي أرساها ديميتريوس، حاكم أثينا، حين حدد الحقوق السياسية للمواطنيين بمقدار ما يملك المرء من ثروة، كما يذكر المترجم في المقدمة.
وفي الواقع، إن مسرح هذه الحقبة كان منشغلاً بشكل كبير بصفات الإنسان وطباعه، فقدمت أعمال كبيرة عن الغيرة والتسلّط والجشع والقسوة والفضول والحمق، واستخدمت شخصيات عادية لتدلّ على حكمة كبرى تقف خلف الحكاية. ومن الجدير بالذكر أن أعمال ميناندروس كانت ملهمة لموليير.
مع ظهور "كاره الناس"، أصبح بمقدور المختصين في الآداب الإغريقية دراسة ميناندروس بعمق باعتبار هذا العمل الكوميديا الوحيدة التي وصلت كاملة للشاعر وفي حالة جيدة منذ اكتشاف بردية "بودمر bodmer"، وهي أكبر بردية حوت أعمال ميناندروس حين اكتشافها عام 1959 في صعيد مصر. كما تكتسب هذه البردية أهمية تاريخية للدارسين، إذ تثبت أن ميناندروس زار الاسكندرية ومكث فيها، رغم أن الأخبار تقول إنه رفض دعوة بطليموس لزيارة المدينة.