ميلاد محمود درويش ورحيله

18 مارس 2016

درويش.. ضحية صراع سياسي وثقافي (Getty)

+ الخط -
من حق القارئ أن يحب شاعره الأثير، ومن حقه أن يدافع عن إرثه، ولا يكترث لمن يزعمون وراثته من العائلة، أو الأصحاب، أو المؤسسة، أو السلطة. تعرّض محمود درويش، بعد رحيله عام 2008، إلى عدد من الكمائن، جعلت قيمته الإبداعية دريئة للسهام والتجارب السطحية، ولأنماط من التكريمات باسمه، سمتها الغالبة الاستهلاك، وامتصاص حضوره، وإقصاء مقامه الشعري في خضم صراعاتٍ ومبادراتٍ شخصية وسياسية وترويجية لنماذج بعيدة عن روحه الطليقة، والمتفردة في حريتها كشاعر، وحضوره المضيء في ضمائر قارئيه.
أربعة أطرافٍ أعملت سهامها في اسم الشاعر، منذ الأيام الأولى لرحيله، وإلى أيام قليلة مضت: عائلته ومؤسسة محمود درويش وبعض قوى السلطة ومنتحلو صداقته، وكأننا لو لجأنا إلى التحليل النفسي لتحليل سلوكياتهم، لهالنا أن نكتشف نزعةً جارفةً لاواعية لقتل الشاعر بعد رحيله، تفوق ربما، في قوة اندفاعتها، نزعة أوديب لقتل أبيه، كما جاء في الرؤية الفرويدية. فمنذ رحيله، اختيرت رام الله التي لم يحبها يوماً، واعتبرها محلاً للسكنى المؤقتة، لتكون مثواه الأخير، على غير رغبته، ورغبة حنينه إلى أرض ولادته، وكأن القرار في ذلك الاختيار صادَر إرادة الشاعر، ليتحول مقامه القسري الأخير إلى جزء من المؤسسة الرسمية، ومركزاً فيما بعد لمؤسسةٍ نشأت كالفطر، وشيّأت اسمه وتراثه في متحفٍ للسواح، يشترون منه فناجين قهوة، تحمل توقيعه مطبوعاً لسائحةٍ ربما لم تقرأ كتاباً له، وأغلب الظن أنها عرفته من "أحنُّ إلى خبز أمي"، بصوت مغنٍ لبناني، كان من أبرز من استهلكوا الشاعر وشعره.
أبرز السهام التي أصابت الشاعر، والتي انطلقت بدوافع ليست بريئة، بل كانت مدفوعة الأجر، كانت تلك الكارثة المسماة مسلسل "في حضرة الغياب"، وساهمت في وقوعها مؤسسة محمود درويش وعائلته، بتزكية مشبوهةٍ من صاحبه الذي يدّعي أن الشاعر كان يكتب له الشعر، لكي يضع له موسيقي التفجّع ومقامات البكائيات، مارسيل خليفة. تواطأ هؤلاء جميعاً، على الرغم من تهالك سيناريو المسلسل، وتشويهه صورة الشاعر، كما رموز فلسطينية سياسية وثقافية، تعاملت مع التاريخ والجغرافيا باستخفاف وسطحية، أعطت موافقتها على صناعة المسلسل، بعد أن دفع منتج المسلسل، فراس إبراهيم، أموالاً لنيل رضاهم. وعلى الرغم من كل الاحتجاجات الشعبية والثقافية، بث تلفزيون السلطة هذه المهزلة، ولم يحرّك المثقفون النافذون في السلطة ساكناً لإيقافها.
وما الصراع الذي شهدته رام الله، أخيراً، بين المؤسسة والسلطة، وإعفاء مجلس أمنائها، سوى حلقة من الكمائن التي نصبت للشاعر بعد رحيله، فقد صار موضوعاً لصراعٍ سياسي في مواقع القرار، توّج، أخيراً، بنتائج جائزة الإبداع التي منُحت إلى غسان زقطان وإلياس خوري والكاتبة الأميركية أليس ووكر. والجائزة تصدر عن مؤسسة درويش، ويرأس لجنة تحكيمها فيصل درّاج الذي عُيّن بقرار من السلطة، لوظيفة رئاسة اللجنة التي تعمل يومين في العام، لتصادق على ما يصدر لها من ترشيحاتٍ من رام الله. لم تجد نتائج هذا العام أي بهجة، ولا ترحيباً فلسطينياً وعربياً، على الرغم من التقدير الكبير للروائي اللبناني، إلياس خوري، وأدبه ومواقفه السياسية، ذلك أن منح الجائزة إلى كاتبة أميركية، مثل أليس ووكر، على الرغم من أهميتها، جاء مستهجناً بوجود كاتباتٍ عربياتٍ وفلسطينياتٍ بارزاتٍ، تجاهلتهن الجائزة. أما جائزة غسان زقطان فقد كان واضحاً أنها جاءت مكافأةً، لدوره في الدفاع عن المؤسسة في صراعها مع الرئاسة، وخصوصاً أن هناك شعراء وكتاباً فلسطينيين بارزين لم ُيلتفت إليهم، وتجربتهم أهمّ وأرسخ من تجربة زقطان الشعرية، مثل أحمد دحبور وعزالدين المناصرة وزكريا محمد وسحر خليفة والأكاديمي إبراهيم مهوي وغيرهم من فنانين تشكيليين ومسرحيين.
بات محمود درويش سلعةً في سوق السياسة والثقافة عند هؤلاء، وصار عرضة لـ "بروموشن" في الأسواق العالمية.
8FEA7E0E-EB59-44E6-A118-ECD857E16E1C
نصري حجاج

كاتب ومخرج سينمائي فلسطيني، ولد في 1951، كتب في صحف في بريطانيا ولبنان والإمارات وفلسطين، أخرج عدة أفلام وثائقية، حاز بعضها على جوائز في مهرجانات دولية. نشرت له مجموعة قصص قصيرة في رام الله، وترجم بعضها إلى الانكليزية.