في الظهور السينمائي الأول لشخصية الفأر ميكي عام 1928، في Steamboat Willie لوالت ديزني وأُوب أَيْوُركس، كُتب على اللوحات الدعائية المُعلّقة في شوارع نيويورك وولايات أميركية أخرى ما يلي: "شاهِدْ معجزة الفأر المتكلِّم مع والت ديزني". حدث هذا بعد عام واحد فقط على دخول الصوت إلى السينما، مع "مغنّي الجاز" (1927) لآلان كروسلاند. كانت هذه لحظة تحوّل سينمائي وثقافي. بل كانت "معجزة"، كما وصفتها الدعايات، لأنّ الأمر لم يعد مُقتَصرًا على رؤية شخصيات كرتونية وخيالية مرسومة، بل شخصيات حيّة تتنفّس وتتكلّم، وكان ميكي ماوس الباكورة والانطلاقة الأولى لهذا كلّه.
الصوت ـ الذي أدّى إلى جعل الشخصية كائنًا حيًّا ـ أول ما يرتكز عليه معظم النقّاد والمؤرّخين في تحليلهم بداية شهرة ميكي ماوس وانتشاره. لكن الأثر المدوّي على مدى 90 عامًا، الذي حوّل الفأر الصغير إلى أيقونة سينمائية وثقافية ووطنية، احتاج إلى أسبابٍ أخرى عديدة. هناك ما هو مرتبط بـ"الشكل"، فلعقودٍ طويلة اعتبر علماء النفس أن البساطة الشديدة في تصميم ميكي ماوس دافعٌ للأطفال إلى حبّه والتعلّق به، وهذا كان يعيه جيدًا مبتكر الشخصية والت ديزني، وشريكه الذي رسمها أُوب أَيْوركس، اللذان أرادا إضفاء طابع حميميّ على حيوان كالفأر، يحضر عادةً في أيّ مخيّلة أو ثقافة شعبية بصورة سلبية. لذلك قرّرا أن تكون رأس الشخصية عبارة عن 3 دوائر، مع ابتسامة متّسعة وتعبيرات طفولية في المواقف كلّها، وإضافة تفاصيل ذكية ظلّت تتطوّر في عشرينيات القرن الـ20، وصولاً إلى الصورة التي نعرفه فيها، والتي ولدت عام 1928، كالقفازات البيضاء والـ"شورت" والحذاء، كتأكيد على أنه "فأر مختلف عن صورتنا المسبقة عن الفئران" كما يقول ديزني في أحد حواراته التلفزيونية.
ومع انتشار الألوان لاحقًا في السينما والرسوم المتحركة، ظهر ميكي ماوس ملوَّنًا للمرّة الأولى في حياته عام 1935، في The Band Concert لديزني وويلفرد جاكسون، متّخذًا فيه شكلاً خياليًا أكثر بهجة وسحرًا، بارتدائه ملابس حمراء وحذاءً أصفر وقبعات يتغير لونها، ليستمر لاحقًا بالصورة البسيطة والأخّاذة نفسها، في الأفلام والمسلسلات والكتب المُصوَّرة.
إلى جانب الصوت والشكل، هناك أمر لا يقلّ أهمية (إنْ لم يزد أهمية) عن المعنى والقيمة اللذين تتضمّنهما الشخصية. يقول والت ديزني في الحوار التلفزيوني نفسه إنّ "الفأر من أصغر الكائنات الحية، والجميع يحاربونه، بمن فيهم أنا، وميكي ماوس يدافع عن وجوده". تلك الجملة الكاشفة ملخّص دائم لرحلة الشخصية في الأفلام والقصص كلّها التي ظهرت فيها خلال 90 عامًا: الفأر الصغير المتفائل، الذي لا يملك أية قوة خارقة أو استثنائية أو عناصر مساعدة، لكنه يحاول الانتصار على العقبات المُهدِّدة لوجوده.
هذا أمرٌ حلّله باكرًا جدًا الفيلسوف الألماني فالتر بنيامين، في مقالة له منشورة عام 1931: "مغامرات ميكي ماوس لا تشبه الحكايات الخيالية، (فهي) تقوم كلّها على فكرة بسيطة: الخروج من المنزل ومواجهة الخوف. هذا ما يُفسِّر سبب تأثيرها وشهرتها الهائلة: إنه ببساطة إدراك الجمهور أنها تعبّر عن حياته الخاصة واليومية بشكل غير مباشر".
تبعًا لذلك، ليس غريبًا أن يرى والت ديزني، مع شخصياته وعوالمه كلّها التي أوجدها، أن ميكي هو الأقرب إلى شخصيته والأحب إلى قلبه، بتفاؤله وعدم يأسه وسخريته من الصعاب وتجاوزه لها.
لهذا كلّه، دخل ميكي ماوس قلوب الجمهور منذ ظهوره الأول، وصارت مشاهدته في أفلام رسوم متحرّكة قصيرة، تُعرض قبل الأفلام الطويلة، من العلامات المميزة لدور السينما أواخر عشرينيات القرن الـ20 وثلاثينياته. ومع مرور الوقت، صار له عالم كامل يميّزه، وشخصيات أخرى ذات صلة به، تضيف إلى شعبيته، في الأفلام والكتب المُصوّرة، كـ"دونالد داك" صديقه الأشهر، و"ميني ماوس" خطيبته، وحكاية حبهما التي تعطيه أبعادًا رومانسية تجعله أقرب إلى الإنسان، و"غوفي" الكلب صديقه المخلص منخفض الذكاء، والقطّ العملاق "بيت" خصمه الرئيسي منذ البداية (1928)، والسنجابين "تشيب" و"دال"، و"الشبح بولت"، وغيرها من الشخصيات الموجودة في العالم الخيالي لميكي ماوس، المليء بالحيوانات الناطقة المقرّبة من الأطفال.
بلغت شهرة الشخصية حدًّا كبيرًا، إلى درجة اعتبارها رمزًا أميركيًا خالصًا، خصوصًا أثناء الحرب العالمية الثانية، في أفلام وقصص مصوَّرة أظهرته في الجيش الأميركي، أو منفِّذًا لمهمات ضد ألمانيا النازية، وأشهرها A Secret Mission (1943).
حين ننظر الآن، بعد 90 عامًا، على شهرة شركة "والت ديزني" وأفلامها وعوالمها، يجب أن نتذكر أن الانطلاقة الأولى التي دفعت هذا كلّه إلى الأمام كانت شخصية ميكي ماوس، أو بشكل أدقّ، لنستعد جملة والت ديزني نفسه التي تحمل الدلالات كلّها: "كلّ شيء بدأ مع فأر".