لم ترتبط ألمانيا سياسياً، عبر تاريخها الطويل، إلا ببضعة أسماء: أوتو فون بسمارك موحّدها، أدولف هتلر مدمّرها، وأنجيلا ميركل سيّدتها. لكلّ منهم يقابله خصم أو صديق أو مقابل روسي. لبسمارك كان ألكسندر غورتشاكوف، ولهتلر كان جوزيف ستالين، ولميركل يوجد فلاديمير بوتين. في شرق أوروبا، تمركز الروس دوماً، وفي وسطها تخندق الألمان. وإذا كان بسمارك وقف ندّاً قوياً لغورتشاكوف، ولمّ شمل الأمة الألمانية، وإذا كان هتلر سُحق على يد ستالين، فإن أمام ميركل رحلة شديدة البأس مع بوتين، الطامح الى قرع بوابة براندنبرغ (رمز مدينة برلين) مجدداً.
لم تخطئ ميركل حين أصرّت على السير في خط الشراكة الكاملة مع فرنسا الذي دشنه المستشار الأسبق هلموت كول مع الرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتران، من أجل الامساك بأوروبا بشكل كامل. من جهة، تمكنت من كسب الرئيس الفرنسي السابق، نيكولا ساركوزي، الى جانبها، بعدما خاب أمل الأخير بالأميركيين، الذين يُفضّلون البريطانيين كخيار أوروبي أوّل، ومن جهة ثانية، رسمت حدود الامبراطورية الألمانية الجديدة.
لم تخطئ، لكنها لم تتوقّع أن تأتي المشاكل من الشرق، فهي وإن تسيّدت معارضي انضمام تركيا الى الاتحاد الأوروبي، غير أنها لم تتوقع أن يؤلمها الوضع الأوكراني، الى درجة تخال فيها أن دونيتسك هي مسقط رأسها، هامبورغ، وأن حوض دونباس الأوكراني هو منطقة الرور الصناعية الألمانية، وأن كييف هي برلين. فكل قرش يُنفق في أوكرانيا بسبب الأزمة، يُصرف مثله في ألمانيا، وقد يؤثر، على المدى الطويل، على حلّ الأزمة الاقتصادية اليونانية، التي تكفّلت ألمانيا بمعالجتها.
حاولت ميركل الاحتفاظ برباطة جأشها: حاورت بوتين بعقلانية، وجالت أوروبياً وأميركياً. لا تريد خسارة موقع بلادها المتنامي، ولا تريد عداوة مع روسيا في الوقت عينه، وتحتاج الى البقاء صلبة أمام العالم، وهي التي صُنِّفَت كـ"أقوى امرأة في العالم" عام 2011، ولو خافت من كلبة بوتين، "كوني". ثلاثية كرّستها كـ"وريثة شرعية" للمرأة الحديدية، البريطانية مارغريت تاتشر. لكن هل في وسع ميركل الثبات؟
اقتصادياً، ركّزت ميركل على العلاقة مع جيرانها الأوروبيين، وهو الأمر الواضح في تعاملاتها التجارية. ألمانيا تؤدي دور الجار الثري الذي يملك كل شيء، ولم تعد جائزة الخشية منه بعد ضربتين قاصمتين، في الحربين العالميتين الأولى والثانية. ومع احتكاكها بروسيا من بوابة بحر الشمال، وبولندا برّاً، تصرّفت ميركل بواقعية مع بوتين. أقنعت الأميركيين في 2008، الى حين، بإرجاء ضمّ جورجيا وأوكرانيا الى حلف شمال الأطلسي، تحت شعار: "إن سعيتم الى ضمّهما، فسيسبقكما إليهما".
تعلم ميركل أن ما تقوله، لا يأتي من فراغ، فكبار ركائز الاقتصاد الألماني، يرفضون فكرة محاربة روسيا اقتصادياً، من رئيس شركة "سيمنز"، جو كريسر، ورئيس اتحاد الصناعة الألمانية، أولريخ غريللو، مشيرين الى ضخامة التبادل التجاري بين روسيا وألمانيا، الذي بلغ 76 مليار يورو في 2013، كما تستثمر 6000 شركة ألمانية في روسيا، برأسمال يُقدّر بـ20 مليار يورو.
بدت ميركل وكأنها المرأة التي "تتفهّم" دوافع بوتين، وهو لم يخشَ مرة في القول: "إنها ألمانية نموذجية، وتُعتبر بالنسبة لنا جميعاً قدوة مطلقة، فهي محترفة من العيار الثقيل".
لغزل بوتين أكثر من دافع، فميركل المولودة في هامبورغ (ألمانيا الغربية أيام الألمانيتين)، أمضت عمرها في ألمانيا الشرقية. تعلّمت اللغة الروسية، فضلاً عن أنها تفهم تماماً العقلية الروسية. عاملان ساهما في جعْل بوتين يكنّ لها الاحترام الأكبر بين جميع نظرائه. ومع أن المستشار السابق، غيرهارد شرودر، يعتبر حليفاً وصديقاً لبوتين، غير أنه على شاكلة مستشار سابق آخر، هلموت كول، وهو ما لا يُمكن لشخص مثل بوتين تحمّله.
منذ 9 سنوات، كانت ألمانيا مجرّد دولة من دول الاتحاد الأوروبي، اليوم باتت الدولة الأقوى، والقادرة على تأدية دورها "الاعتيادي"، الذي رُسّخ منذ نشوء النهضة الصناعية، في القرون الوسطى، اقتصادياً لا عسكرياً. تدرك ميركل أن بوتين، العائد من بعيد، لا يطمح سوى الى كسب ألمانيا الى جانبه، الى الأبد. تتفهّم ميركل هذا، فالبعض لا يزال واثقاً من أن عقلية بوتين الروسية لم يصنعها سوى ألماني... كارل ماركس.