ميدان عرابي.. الفوضى تهدد التاريخ

10 مايو 2015
مشهد بانورامي من ميدان عرابي في الإسكندرية (العربي الجديد)
+ الخط -

يرتبط ميدان عرابي، الموجود بمنطقة المنشية وسط الإسكندرية، بخطابات الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، سواء في عيد الجلاء أو بإطلاق النار عليه في ما يعرف بحادثة المنشية، تحولت شوارعه ومبانيه العتيقة إلى متحف مفتوح للباعة الجائلين، تاهت فيه معالمه بعد أن هاجمها الزحام والتكدّس والعشوائية.

نشطاء وأثريون أرسلوا أكثر من استغاثة للمسؤولين والجهات المعنية، وقاموا بتنظيم عدد من السلاسل البشرية والوقفات الاحتجاجية لإنقاذ الميدان العريق والحفاظ على تراثه الذي جسّد حقبة تاريخية وزمنية مهمة في تاريخ مصر الحديث.

يقول توني حليم، الخبير الأثري بمبادرة "تراث مصر": إن جمال ورقّة التخطيط العمراني للميدان اندثرا بفعل الملوثات والفوضى بعد أن افترش المئات من الباعة الجائلين كل شبر فيه، واختفت معه المباني الجميلة والتفاصيل الدقيقة للعمارات والمباني التراثية المميّزة بعد أن كانت نموذجاً لواحد من أفضل وأرقى الأحياء السكنية.

وأشار إلى أن التشوّه والتجاوزات لم يتوقفا فقط عند الأماكن الأثرية، بل امتدت إلى المباني الحديثة والتي غالباً ما تتم بدون ترخيص في ظل غياب الرقابة الحكومية، مطالباً بتشريع قانون يحافظ على التاريخ العريق للميدان وغيره من المباني التي لها قيمة تاريخية وفنية كبيرة.

وبملامح مليئة بالأسى والحزن، يتذكر الحاج عبد المنعم عبد العزيز (82 سنة)، تاريخ الميدان والذي تحوّل بمرور الوقت إلى عنوان للفوضى والعشوائية تاهت فيها الكثير من معالمه الشهيرة واختفت من المباني التاريخية.. والمتبقي يحتاج إلى الترميم.

وأكد عبد العزيز، الذي يعتبر من أقدم ساكني المنطقة المحيطة بالميدان وشهد العديد من أعمال التطوير، أن تلك الأعمال لم تهتم بالمباني الأثرية الموجودة بالميدان أو بالنواحي الجمالية التي تتميّز بها بعد استبدالها بأخرى خراسانية ذات واجهات قبيحة أسهمت في ضياع القيمة التراثية والتاريخية للمكان الذي يحكي تاريخ العاصمة الثانية.

وأضاف أن الأزمة الحقيقية في مسألة حماية الآثار والتراث تكمن في أن المتصدّين لها لا يعون جيدًا حجم وطبيعة المتعدّين عليها، مشيراً إلى أن الموضوع أكبر من مجرد مقاول يريد بناء عمارة أو برج جديد على أطلال مبنى تراثي أثري مهم، بل يصل إلى محاولات ممنهجة للقضاء على الطابع الجميل للإسكندرية ورونقها الممتد عبر السنين.

وتحدث الدكتور أحمد عبد الفتاح، مستشار وزير الآثار السابق، عن الأهمية التاريخية للميدان الذي أنشئ في عهد محمد علي عام 1834 في قلب محافظة الإسكندرية وامتدت منه الشوارع والميادين التي جرى تخطيطها على النسق الأوروبي، خاصة الإيطالي، وحمل العديد من الأسماء الأخرى، مثل "ميدان السلاح"، "الميدان الكبير"، "ميدان القناصل"، "ميدان محمد علي"، ثم الآن "ميدان التحرير"، وكلها أسماء تعكس التغيّرات في أحوال المجتمع المصري الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بشكل عام، ومجتمع الإسكندرية بشكل خاص.

اقرأ أيضا:مقاهي الإسكندرية نواد اجتماعية وصالونات سياسية

ويظهر ذلك جلياً في تصميم بعض المنشآت التي ما زالت حاضرة، مثل محكمة الحقانية، مقر "المحاكم المختلطة" الجديدة التي صممها "ألفونسو مانيسكالكو" عام 1886، وفرع "البنك العثماني الإمبراطوري" الرئيسي الذي صممه "بروسپر ريمي"، وكذلك "بورصة الأوراق المالية"، وغيرها من المباني والوكالات العتيقة التي تعتبر من معالم القرن التاسع عشر.


فيما يرى محمود ربيع، الخبير العقاري، أنه رغم التشوهات التي وصفها بالممنهجة والتي تتم بمعرفة من سماهم بـ"مافيا" أو مقاولي هدم المباني الأثرية، إلا أن كثيراً من الأماكن لا تزال حاضرة في كثير من جنبات الميدان وبها عبق الماضي الجميل، تحكي تاريخ المدينة، مثل محكمة الحقانية التي تعتبر أقدم المحاكم المصرية والقنصلية الفرنسية.

وأضاف: رغم تغيّر اسم الميدان أكثر من مرة، كان آخرها بعد ثورة 1952، إلى التحرير، إلا أن تمثال محمد علي المصنوع من البرونز والموجود حالياً بوسط منطقة المنشية، جعله علامة ودليلاً يُعرف به بين أهالي المدينة حتى الآن، وأعاد إليه اسمه القديم رغم تغيره بعد ثورة 1952، معتبراً أن عدم اتخاذ تدابير حقيقية لحماية مثل تلك الأماكن، هي جريمة يجب ألا تسقط بالتقادم، ضد كل من ساعد أو شارك فيها.

واعتبر ربيع ما يحدث في الميدان خسارة تاريخية لا يمكن تعويضها بعد أن ضاعت خصوصية المكان ورونقه القديم المتمثل في كثير من الأماكن بالميدان الذي شهد العديد من الوقائع التاريخية المهمة. فخلال فترة حكم عبد الناصر، كانت شرفة الاتحاد الاشتراكي، البورصة سابقاً، بإطلالتها على الميدان، المكان المثالي لخطبه الجماهيرية وقراراته المهمة، وهو المكان نفسه الشهير بما عُرف في محاولة اغتياله بحادثة المنشية.

بدوره، أكد الدكتور محمد عوض حمد عوض، أستاذ العمارة والمؤرخ السكندري، تردّي الطابع العمراني للميدان الذي تحوّل إلى دوّار واسع للمرور يكتظ بالباعة الجائلين، وهو جزء ممّا تعانيه المدينة من تخبّط وارتباك في البيئة المبنية والمهددة دائماً بالتعديلات غير المدروسة والإضافات غير الملائمة للطرز الأصلية.

وأشار إلى أن انتشار ظاهرة سكان أسطح العمارات حول الميدان والفوضى المرورية ووجود الباعة الجائلين الذين يحتلون كل شبر متاح من الأرصفة المحطمة هي نتيجة ـ على الأقل جزئياً ـ لسوء الإدارة وتراجع دور الدولة في الحفاظ على البيئة المبنية وتنظيم الفراغ العمراني.

من جانبه، قال اللواء أحمد أبو طالب، رئيس حي الجمرك، إن أجهزة المحافظة التنفيذية تحاول القيام بدورها في شن حملات لإزالة الإشغالات بشكل مستمر، إلا أن الباعة يعاودون الرجوع مرة أخرى متحدين القانون، مشيراً إلى أن الحي يواجه أيضاً محاولات طمس التراث المستمرة عبر التشويه والهدم والعبث في الأبنية التراثية.

وأضاف رئيس الحي أن الأزمات التي يعاني منها الميدان هي جزء لا ينفصل ممّا تعانيه كل الميادين العامة والأحياء والشوارع الرئيسية في مصر، بعد ثورة 25 يناير وحالة الانفلات الأمني والأخلاقي التي تفشت بالمجتمع، وهو ما يتطلب حلولاً شاملة؛ إذ إن الأزمة تبحث عن حلول شاملة لكافة القضايا المرتبطة بالمشكلة حتى يتسنى لها التحقق وتغيير الواقع الصعب الذي نعيشه، على حد قوله.

اقرأ أيضا:ردم صهريج أثري مصري لغياب موارد الترميم
المساهمون