16 ابريل 2017
ميتران الثاني.. أسرار "العاشق" والملفات الخارجية الساخنة
بعد انتخابات 1986 التشريعية في فرنسا، وخسارة الاشتراكيين الأكثرية البرلمانية، سمّى فرانسوا ميتران زعيم اليمين الجمهوري جاك شيراك لتشكيل الحكومة، فدخلت فرنسا فترة عرفت بـ "التعايش الأول"، تخلّله أزمات داخلية عديدة، كان أبرزها اندلاع احتجاجات طلابية كبيرة، تطوّرت بشكل دراماتيكي في نوفمبر/ ديسمبر بعد التصويت على قانون آلان دوفاكيه (وزير التربية آنذاك) الإصلاحي الخاص بالجامعات. وانتهت احتجاجات الطلاب الثانويين والجامعيين بقمع عنيف، كان وراءه وزير الداخلية اليميني، شارل باسكوا، وأدت إلى سقوط ضحايا في صفوف الطلاب، ما اضطر شيراك إلى التراجع عن القانون، وقبول استقالة دوفاكيه.
وشكّل "الساندروم" الطلابي هزّة كبيرة في الوسط الاجتماعي الفرنسي، وعادت مفاعيله لتظهر في مظاهرات لاحقة، طاولت قوانين العمل والوظيفة (2006 مع شيراك و2016 مع هولاند)، ومع أنّ الجميع كان يعلم معارضة ميتران تمرير القانون، إلا أنّ أصواتاً كثيرة بدأت تعلو من داخل معسكر اليسار نفسه، تنادي بعدم ترشح ميتران لولاية ثانية، عزّزها الفشل في التوصل إلى حل لأزمة الرهائن الفرنسيين في لبنان، واصطفاف ميتران مع صدام حسين في حربه ضد إيران.
على الرغم من معرفته بإصابته بسرطان البروستات في نهاية ولايته الأولى، أعلن ميتران عن ترشحه لولاية رئاسية ثانية في 22 مارس/ آذار 1988، وشهدت حملة الرئيس الحالي طبع ملصقاتٍ لم تحمل صورته، بل جاءت على شكل طفل صغير، يمد يده لتلاقيه يد شخص كبير (ميتران طبعا)، وقد كتب على الملصق "جيل ميتران"، أما شعار الحملة، فكان "فرنسا الموحدة"، وعندما سُئل ميتران عن فحوى الشعار، ولماذا اختاره فريقه، قال "نحن لسنا طيبين، هم ليسوا سيئين".
في هذا الوقت، كان جاك شيراك يعد العدة لقلب الطاولة على ميتران، فبدأ يعقد لقاءات انتخابية من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب الفرنسي. وكان الجميع يعتقد أنّ حظوظ شيراك تبدو مرتفعة هذه المرة، لكنّ أحدا لم يتوقع ترشح ريمون بار الذي راهن على أصوات الجيسكارديين لسحب البساط من تحت أقدام شيراك، والتأهل إلى الدور الثاني.
تصدّر ميتران الدور الأول وحصد 34% من الأصوات، في ظل تشتت أصوات اليمين ويمين الوسط، ورجحت كفة شيراك على اليمين، ليحل ثانيا مع حوالي 20% من الأصوات مقابل
16% لبار، وشهدت تلك الانتخابات صعود نجم الجبهة الوطنية، ومرشحها جان مارين لوبان الذي شكّل مفاجأة كبيرة بتجاوزه مرشّح الشيوعيين، أندريه لاجوان الذي حلّ خامسا. مع هذه الانتخابات، بدأت مسيرة الانحدار الطويل التي ضربت الحزب الشيوعي، واشتدّت أزمة الشيوعيين، بعد رفضهم المشاركة في حكومة ميشال روكار التي ضمّت أسماء من يمين الوسط، كميشال دورافور وأوليفيه ستيرن، وشخصيات تمثّل المجتمع المدني، كآلان دوكو وليون شوارتزنبرغ، طبيب السرطانيات الذي عرف بدفاعه عن المشرّدين الذين لا يملكون مأوى.
مغارة أوفيا الغارقة بالدم... ورهائن لبنان
في الخامس من مايو/ أيار، وعلى الرغم من الاختلاف الكبير، والتنافس الانتخابي، اتخذ الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران، ورئيس حكومته جاك شيراك، قرارا باقتحام مغارة أوفيا المقدّسة، المغارة التي تقع في كاليدونيا الجديدة في المحيط الهادئ، وتتبع لفرنسا إداريا، وكانت قد شهدت، قبل أيام، اعتداء قبائل الكاناك الانفصاليين على وحداتٍ للدرك الوطني، واحتجزوا 16 رهينة. صباحا، اقتحمت القوات الفرنسية المغارة وقتلت 19 انفصاليا، واستطاعت تحرير الرهائن، بعد إطلاق عشرة آلاف رصاصة. عرضت "فرانس 24" وثائقيا حمل عنوان "كاليدونيا الجديدة: تذكرة عودة إلى أوفيا" في سبتمبر/ أيلول الماضي، استعادت فيه الحادثة الدموية وأثرها على العلاقة بين فرنسا والإقليم، خصوصا بعد توقيع "اتفاق ماتينيون" القاضي بمنح كاليديونيا حق تقرير المصير.
لعبت تلك الحادثة دورا محوريا في رفع أسهم ميتران المنتهية ولايته في البقاء سبع سنوات إضافية في الإليزيه، عزّزتها حادثة إطلاق الرهائن الفرنسيين الثلاثة، مارسيل كارتون، مارسيل فونتين وجان-بول كوفمان (5 مايو/ أيار 1988) المختطفين على يد مجموعة إيرانية، هي "منظمة الجهاد الإسلامي". في شهادته التي وثّقها جان-بول بيلو، يتحدّث كوفمان كيف قضى ميشال سورا، باحث الاجتماع الفرنسي، وصاحب كتاب "سورية الأسد أو الدولة البربرية"، الذي زامله في السجن، مريضا في قبو مظلم في بيروت، ولم تسترجع فرنسا جثته حتى سنة 2005، بعد إعلان حزب الله عن عثوره على بقايا جثته في ورشة للبناء في منطقة برج البراجنة في ضاحية بيروت الجنوبية.
من بين الأسباب التي دفعت حزب الله إلى اختطاف سورا آنذاك، تعود ماري سورا (زوجة ميشال) في كتابها "غربان حلب" للحديث عن معسكري الصراع في لبنان، الإيراني والعراقي، والانعكاس الذي برز على التنظيمات المتحاربة. كانت إيران تحمل على فرنسا بسبب موقف ميتران الداعم لصدام حسين، وبسبب "ودائع أوروديف" التي تطالب بها طهران. وكانت ورقة الضغط في الساحة اللبنانية تمر عبر اختطاف صحافيين ومفكرين فرنسيين في بيروت ليتم التفاوض مع باريس على المسائل العالقة بين البلدين. وقد شهدت سنوات الثمانينات عمليات خطف لعدد كبير من الرهائن الغربيين، تبنتها تنظيمات مرتبطة بإيران كـ "المجاهدون من أجل الحرية" و"منظمة المستضعفين" و"منظمة العدالة الثورية" التي ضمت مقاتلي "أمل الإسلامية" المعارضين للعراق.
كيف فاز؟
بعد انتصار ميتران سال حبر كثير عن القدرة الهائلة التي اكتسبها الرئيس الفرنسي خلال
ولايته الأولى في طريقة الرد على محاوريه وخصومه السياسيين. وغمزت عشرات الأقلام الصحافية من باب الفريق الإعلامي الذي كان مسؤولا عن تدريب ميتران على التواصل السياسي والإشراف على تهيئته نفسيا للمقابلات والمناظرات الرئاسية.
ويبقى الثنائي جيرار كوليه وجاك بيلان الوجه الأبرز لفريق ميتران الذي رافقه سنوات في الإليزيه. في كتابه "مشعوذ الإليزيه" الذي يرسم بورتريه مستشار التواصل، جاك بيلان، يشرح الصحافي فرانسوا بازان كيف استطاع بيلان أن يكوّن خلفية ثقافية عميقة جدا، إذ كان محاطا بعشرات الأصدقاء الذين درسوا الأنتروبولوجيا والمسرح والسينما، كما ساعده اطّلاعه العميق على علم النفس، وقراءته التحليلية الواسعة لسياسات المونتاج الدعائية للحملات الانتخابية على ترجمتها في وكالته "Temps public". في الوقت عينه، كان جيرار كوليه يضع الخطط الاستراتيجية لتمكين خطاب ميتران من اختراق القواعد الشعبية للمرشحين الآخرين.
وتكمن المفارقة في عدم عمل الثنائي مع فريق الحزب الاشتراكي في شارع سولفيرينو، أو مع فريق الحملة الرئيسي الذي كان يشرف عليه بيار بيريغوفوا. "كنا نعمل سرا، في الظل، هذا الأمر كان يلائمنا كثيرا، وكان يلائم ميتران، وهذا جوهر النجاح الذي وصلنا إليه طوال 14 عاما"، يقول كوليه في حوار مع "الإكسبرس" أجراه تييري دوبون. عشية الانتصار، تداعى فريق ميتران إلى فندق ومطعم فيو مورفان في النييفر، المطعم الذي ارتبط اسمه باسم الرئيس الفرنسي، وبعدها في الطوافة التي كانت تقل ميتران مع مستشاريه، مرّر كوليه ورقة لزميله بيلان، كتب عليها "تمت المهمة بنجاح، أعتقد أننا سنصبح مزعجين بعد الآن.
حكومة التعايش الثاني
فور انتخابه لولاية ثانية، وكما كان متوقعا، أوكل ميتران لصديقه وخصمه السياسي، ميشال روكار، الذي بدأ يؤثر في القسم الأكبر من المحازبين الاشتراكيين، عبر خطاب الديمقراطية الاشتراكية القائم على واقعية الإدارة الاقتصادية ومبدأ إعادة توزيع الثروة، تشكيل حكومة جديدة، رفض الحزب الشيوعي المشاركة فيها، ما اضطر روكار لتعيين وزراء من أحزاب الوسط والمستقلين. لكنّ استعار الخلاف بين روكار وميتران، والتباين في وجهات النظر عجّلا في تعيين إديث كريسون أول سيدة تترأس المجلس الوزاري.
في مقال عنونته صحيفة لوفيغارو "إديث كريسون من دون ماكياج وبلا ندم"، تشرح الصحيفة كيف ساهمت تصريحات السيدة كريسون عن البريطانيين (مخنثين) واليابانيين (نمل) في ضرب صورة الحكومة الاشتراكية، ما جعل ميتران يستعين ببيار بيريغوفوا الذي شكّل حكومةً كانت رمزا للتقشف الاقتصادي.
وشكّلت حرب الخليج الثانية محطة مفصلية في ولاية ميتران الثانية، خصوصا بعد استقالة
وزير الدفاع بيار شوفنمان، ورفضه مشاركة القوات الفرنسية في العمليات العسكرية ضد العراق، معتبرا الأمر تمكينا لتبعية فرنسا للولايات المتحدة الأميركية. وعمد ميتران إلى محاولة حل الصراع ديبلوماسيا، بإقناع الرئيس العراقي صدام حسين بالانسحاب من الكويت، لكنّ محاولته فشلت، وأخذ قرارا بالمشاركة في عداد القوات التي توجّهت إلى الكويت. كما شهدت تلك السنة إرسال فرنسا قوات عسكرية إلى روندا، ونفّذت كتائب مختصة من الجيش الفرنسي "عملية الفيروز" في يونيو/ حزيران 1994، بعد توقيع اتفاقية روشا وتشكيل حكومة مشتركة. ولم يفوّت ميتران حرب يوغسلافيا، ليعلن دعمه تدخل حلف شمال الأطلسي في العمليات العسكرية، وليشارك لاحقا ضمن قوات حفظ السلام الأممية سنة 1955.
في عهد ميتران، وقّعت فرنسا على "معاهدة ماستريخت" الأوروبية. وفي عام 1993، خسر الاشتراكيون الانتخابات التشريعية، فعادت فرنسا إلى مرحلة التعايش، عرفت بحكومة "التعايش الثاني" التي ترأسها الديغولي، إدوارد بلادور، حتى نهاية ولاية ميتران عام 1995، واتّسمت تلك المرحلة بعودة الخصخصة اقتصاديا، وإنشاء المكتبة الوطنية، وافتتاح جسر النورماندي.
أحب البذخ .. ونفسه
كانت حياة فرانسوا ميتران مليئة بالأسرار والألغاز، حتى خروجه من الإليزيه ووفاته مريضا بسرطان البروستات، ظلّ هذا الرجل يشغل فرنسا والعالم، وإذ تكشف زوجته دانييل طلبه الموت الرحيم في حال توقف عقله عن العمل، يروي طبيبه جان بيار تارو "دخلت إلى غرفته ليلة 8 يناير/ كانون الثاني 1996، كان منتهيا لكنه غير ميت. أتذكر جيدا طلبه جرعة الموت الرحيم، فأنهيت كل شيء".
من الأسرار التي بقيت محط تساؤلات مازارين بينغو، ابنة ميتران غير الشرعية من عشيقته آن بينغو، المرأة التي كانت تعمل في أحد المتاحف الباريسية، وأغوت الرئيس الفرنسي، فأنجبت منه مازارين، عندما كانت في منتصف الخمسينات. مازارين التي كان يحيطها بعناية وحب فائقين، وعمل على تربيتها بالخفاء، أوكل مهمة الاعتناء بها لصديقه المقرب جدا فرانسوا دوغروسفور.
وفي صباح 7 أبريل/ نيسان 1997، وجد دوغروسفور مضرجا بدمائه في مكتبه في الإليزيه وسرى التساؤل: هل انتحر؟ أثبتت التحقيقات والطب الشرعي انتحار رفيق عمر ميتران، لكنّ أشياء كثيرة رحلت مع الرجل الذي كان يكتم أسرار ميتران، وحياته الباذخة وعلاقاته الغرامية المتعدّدة. لم يتحمّل دوغروسفور الشيخوخة، ولم يتجاوز دوره مخبر الرئيس الذي نسي تلك الصداقة التاريخية، وتحوّلت علاقته بدوغروسفور إلى شكل هرمي، أخذت طابع التهميش، ونسي ميتران كل التضحيات التي قدّمها له دوغروسفور من كتْم الأسرار إلى تمويل الحملات الانتخابية، وصولا إلى عرضه مبلغ ثلاثة ملايين فرنك فرنسي على بيار بيّان، لقاء عدم نشره فضائح ميتران، منذ شبابه وعلاقته بحكومة فيشي، مرورا بصداقته مع الرئيس الغابوني، عمر بونغو، حتى علاقاته الغرامية، وقضية ابنته السرّية مازارين. قبل انتحاره بساعات، كان دوغروسفور قد مرّ على سكرتيرة ميتران، وقال لها "ميتران لا يحب أحدا. احذروا منه. هذا الرجل لا يحب سوى نفسه".
وشكّل "الساندروم" الطلابي هزّة كبيرة في الوسط الاجتماعي الفرنسي، وعادت مفاعيله لتظهر في مظاهرات لاحقة، طاولت قوانين العمل والوظيفة (2006 مع شيراك و2016 مع هولاند)، ومع أنّ الجميع كان يعلم معارضة ميتران تمرير القانون، إلا أنّ أصواتاً كثيرة بدأت تعلو من داخل معسكر اليسار نفسه، تنادي بعدم ترشح ميتران لولاية ثانية، عزّزها الفشل في التوصل إلى حل لأزمة الرهائن الفرنسيين في لبنان، واصطفاف ميتران مع صدام حسين في حربه ضد إيران.
على الرغم من معرفته بإصابته بسرطان البروستات في نهاية ولايته الأولى، أعلن ميتران عن ترشحه لولاية رئاسية ثانية في 22 مارس/ آذار 1988، وشهدت حملة الرئيس الحالي طبع ملصقاتٍ لم تحمل صورته، بل جاءت على شكل طفل صغير، يمد يده لتلاقيه يد شخص كبير (ميتران طبعا)، وقد كتب على الملصق "جيل ميتران"، أما شعار الحملة، فكان "فرنسا الموحدة"، وعندما سُئل ميتران عن فحوى الشعار، ولماذا اختاره فريقه، قال "نحن لسنا طيبين، هم ليسوا سيئين".
في هذا الوقت، كان جاك شيراك يعد العدة لقلب الطاولة على ميتران، فبدأ يعقد لقاءات انتخابية من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب الفرنسي. وكان الجميع يعتقد أنّ حظوظ شيراك تبدو مرتفعة هذه المرة، لكنّ أحدا لم يتوقع ترشح ريمون بار الذي راهن على أصوات الجيسكارديين لسحب البساط من تحت أقدام شيراك، والتأهل إلى الدور الثاني.
تصدّر ميتران الدور الأول وحصد 34% من الأصوات، في ظل تشتت أصوات اليمين ويمين الوسط، ورجحت كفة شيراك على اليمين، ليحل ثانيا مع حوالي 20% من الأصوات مقابل
مغارة أوفيا الغارقة بالدم... ورهائن لبنان
في الخامس من مايو/ أيار، وعلى الرغم من الاختلاف الكبير، والتنافس الانتخابي، اتخذ الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران، ورئيس حكومته جاك شيراك، قرارا باقتحام مغارة أوفيا المقدّسة، المغارة التي تقع في كاليدونيا الجديدة في المحيط الهادئ، وتتبع لفرنسا إداريا، وكانت قد شهدت، قبل أيام، اعتداء قبائل الكاناك الانفصاليين على وحداتٍ للدرك الوطني، واحتجزوا 16 رهينة. صباحا، اقتحمت القوات الفرنسية المغارة وقتلت 19 انفصاليا، واستطاعت تحرير الرهائن، بعد إطلاق عشرة آلاف رصاصة. عرضت "فرانس 24" وثائقيا حمل عنوان "كاليدونيا الجديدة: تذكرة عودة إلى أوفيا" في سبتمبر/ أيلول الماضي، استعادت فيه الحادثة الدموية وأثرها على العلاقة بين فرنسا والإقليم، خصوصا بعد توقيع "اتفاق ماتينيون" القاضي بمنح كاليديونيا حق تقرير المصير.
لعبت تلك الحادثة دورا محوريا في رفع أسهم ميتران المنتهية ولايته في البقاء سبع سنوات إضافية في الإليزيه، عزّزتها حادثة إطلاق الرهائن الفرنسيين الثلاثة، مارسيل كارتون، مارسيل فونتين وجان-بول كوفمان (5 مايو/ أيار 1988) المختطفين على يد مجموعة إيرانية، هي "منظمة الجهاد الإسلامي". في شهادته التي وثّقها جان-بول بيلو، يتحدّث كوفمان كيف قضى ميشال سورا، باحث الاجتماع الفرنسي، وصاحب كتاب "سورية الأسد أو الدولة البربرية"، الذي زامله في السجن، مريضا في قبو مظلم في بيروت، ولم تسترجع فرنسا جثته حتى سنة 2005، بعد إعلان حزب الله عن عثوره على بقايا جثته في ورشة للبناء في منطقة برج البراجنة في ضاحية بيروت الجنوبية.
من بين الأسباب التي دفعت حزب الله إلى اختطاف سورا آنذاك، تعود ماري سورا (زوجة ميشال) في كتابها "غربان حلب" للحديث عن معسكري الصراع في لبنان، الإيراني والعراقي، والانعكاس الذي برز على التنظيمات المتحاربة. كانت إيران تحمل على فرنسا بسبب موقف ميتران الداعم لصدام حسين، وبسبب "ودائع أوروديف" التي تطالب بها طهران. وكانت ورقة الضغط في الساحة اللبنانية تمر عبر اختطاف صحافيين ومفكرين فرنسيين في بيروت ليتم التفاوض مع باريس على المسائل العالقة بين البلدين. وقد شهدت سنوات الثمانينات عمليات خطف لعدد كبير من الرهائن الغربيين، تبنتها تنظيمات مرتبطة بإيران كـ "المجاهدون من أجل الحرية" و"منظمة المستضعفين" و"منظمة العدالة الثورية" التي ضمت مقاتلي "أمل الإسلامية" المعارضين للعراق.
كيف فاز؟
بعد انتصار ميتران سال حبر كثير عن القدرة الهائلة التي اكتسبها الرئيس الفرنسي خلال
ويبقى الثنائي جيرار كوليه وجاك بيلان الوجه الأبرز لفريق ميتران الذي رافقه سنوات في الإليزيه. في كتابه "مشعوذ الإليزيه" الذي يرسم بورتريه مستشار التواصل، جاك بيلان، يشرح الصحافي فرانسوا بازان كيف استطاع بيلان أن يكوّن خلفية ثقافية عميقة جدا، إذ كان محاطا بعشرات الأصدقاء الذين درسوا الأنتروبولوجيا والمسرح والسينما، كما ساعده اطّلاعه العميق على علم النفس، وقراءته التحليلية الواسعة لسياسات المونتاج الدعائية للحملات الانتخابية على ترجمتها في وكالته "Temps public". في الوقت عينه، كان جيرار كوليه يضع الخطط الاستراتيجية لتمكين خطاب ميتران من اختراق القواعد الشعبية للمرشحين الآخرين.
وتكمن المفارقة في عدم عمل الثنائي مع فريق الحزب الاشتراكي في شارع سولفيرينو، أو مع فريق الحملة الرئيسي الذي كان يشرف عليه بيار بيريغوفوا. "كنا نعمل سرا، في الظل، هذا الأمر كان يلائمنا كثيرا، وكان يلائم ميتران، وهذا جوهر النجاح الذي وصلنا إليه طوال 14 عاما"، يقول كوليه في حوار مع "الإكسبرس" أجراه تييري دوبون. عشية الانتصار، تداعى فريق ميتران إلى فندق ومطعم فيو مورفان في النييفر، المطعم الذي ارتبط اسمه باسم الرئيس الفرنسي، وبعدها في الطوافة التي كانت تقل ميتران مع مستشاريه، مرّر كوليه ورقة لزميله بيلان، كتب عليها "تمت المهمة بنجاح، أعتقد أننا سنصبح مزعجين بعد الآن.
حكومة التعايش الثاني
فور انتخابه لولاية ثانية، وكما كان متوقعا، أوكل ميتران لصديقه وخصمه السياسي، ميشال روكار، الذي بدأ يؤثر في القسم الأكبر من المحازبين الاشتراكيين، عبر خطاب الديمقراطية الاشتراكية القائم على واقعية الإدارة الاقتصادية ومبدأ إعادة توزيع الثروة، تشكيل حكومة جديدة، رفض الحزب الشيوعي المشاركة فيها، ما اضطر روكار لتعيين وزراء من أحزاب الوسط والمستقلين. لكنّ استعار الخلاف بين روكار وميتران، والتباين في وجهات النظر عجّلا في تعيين إديث كريسون أول سيدة تترأس المجلس الوزاري.
في مقال عنونته صحيفة لوفيغارو "إديث كريسون من دون ماكياج وبلا ندم"، تشرح الصحيفة كيف ساهمت تصريحات السيدة كريسون عن البريطانيين (مخنثين) واليابانيين (نمل) في ضرب صورة الحكومة الاشتراكية، ما جعل ميتران يستعين ببيار بيريغوفوا الذي شكّل حكومةً كانت رمزا للتقشف الاقتصادي.
وشكّلت حرب الخليج الثانية محطة مفصلية في ولاية ميتران الثانية، خصوصا بعد استقالة
في عهد ميتران، وقّعت فرنسا على "معاهدة ماستريخت" الأوروبية. وفي عام 1993، خسر الاشتراكيون الانتخابات التشريعية، فعادت فرنسا إلى مرحلة التعايش، عرفت بحكومة "التعايش الثاني" التي ترأسها الديغولي، إدوارد بلادور، حتى نهاية ولاية ميتران عام 1995، واتّسمت تلك المرحلة بعودة الخصخصة اقتصاديا، وإنشاء المكتبة الوطنية، وافتتاح جسر النورماندي.
أحب البذخ .. ونفسه
كانت حياة فرانسوا ميتران مليئة بالأسرار والألغاز، حتى خروجه من الإليزيه ووفاته مريضا بسرطان البروستات، ظلّ هذا الرجل يشغل فرنسا والعالم، وإذ تكشف زوجته دانييل طلبه الموت الرحيم في حال توقف عقله عن العمل، يروي طبيبه جان بيار تارو "دخلت إلى غرفته ليلة 8 يناير/ كانون الثاني 1996، كان منتهيا لكنه غير ميت. أتذكر جيدا طلبه جرعة الموت الرحيم، فأنهيت كل شيء".
من الأسرار التي بقيت محط تساؤلات مازارين بينغو، ابنة ميتران غير الشرعية من عشيقته آن بينغو، المرأة التي كانت تعمل في أحد المتاحف الباريسية، وأغوت الرئيس الفرنسي، فأنجبت منه مازارين، عندما كانت في منتصف الخمسينات. مازارين التي كان يحيطها بعناية وحب فائقين، وعمل على تربيتها بالخفاء، أوكل مهمة الاعتناء بها لصديقه المقرب جدا فرانسوا دوغروسفور.
وفي صباح 7 أبريل/ نيسان 1997، وجد دوغروسفور مضرجا بدمائه في مكتبه في الإليزيه وسرى التساؤل: هل انتحر؟ أثبتت التحقيقات والطب الشرعي انتحار رفيق عمر ميتران، لكنّ أشياء كثيرة رحلت مع الرجل الذي كان يكتم أسرار ميتران، وحياته الباذخة وعلاقاته الغرامية المتعدّدة. لم يتحمّل دوغروسفور الشيخوخة، ولم يتجاوز دوره مخبر الرئيس الذي نسي تلك الصداقة التاريخية، وتحوّلت علاقته بدوغروسفور إلى شكل هرمي، أخذت طابع التهميش، ونسي ميتران كل التضحيات التي قدّمها له دوغروسفور من كتْم الأسرار إلى تمويل الحملات الانتخابية، وصولا إلى عرضه مبلغ ثلاثة ملايين فرنك فرنسي على بيار بيّان، لقاء عدم نشره فضائح ميتران، منذ شبابه وعلاقته بحكومة فيشي، مرورا بصداقته مع الرئيس الغابوني، عمر بونغو، حتى علاقاته الغرامية، وقضية ابنته السرّية مازارين. قبل انتحاره بساعات، كان دوغروسفور قد مرّ على سكرتيرة ميتران، وقال لها "ميتران لا يحب أحدا. احذروا منه. هذا الرجل لا يحب سوى نفسه".
دلالات
مقالات أخرى
13 ابريل 2017
11 ابريل 2017
05 ابريل 2017