موهبة كريمة بين أصابع قدميها

14 نوفمبر 2015
الريشة خفيفة بين إبهام قدمها اليسرى وسبابتها (العربي الجديد)
+ الخط -
تعتبر نفسها فنانة، وينظر الناس إليها على هذا الأساس. صحيح أنّها من الأشخاص المعوقين الذين لا يملكون الكثير من الحقوق في المغرب، لكنّها صممت على أن تتحدى العالم وتقدم فنها له

وسط ساحة المدينة القديمة في أصيلة، شمال المغرب، تجلس كريمة الجعادي (36 عاماً) على الرصيف ومعها كامل عدتها. تعرض لوحاتها خلفها، وتنهمك في الرسم على قطع خشبية وأحجار مناظر مميزة مستوحاة من مدينة أصيلة بأبوابها وقواربها وأزهارها. تستخدم ألواناً عديدة لكن تبقى للأزرق مكانته البارزة.

بعيداً عن ذلك فالجعادي ليست كأيّ رسام آخر أو رسامة، فهي لا ترسم بيديها بل بقدميها. وهو ما يدفع السياح خصوصاً إلى الإقبال على تذكاراتها الملونة التي باتت تصل معهم إلى مختلف أنحاء العالم.

تقول الجعادي لـ"العربي الجديد" إنّها ولدت بيدين وقدمين غير مكتملة النمو. وخضعت في طفولتها لعلاج طويل حتى أصبحت على الأقل تستخدم قدميها، ولو أنّها لم تتمكن من استخدام يديها. تقول: "كنت أعيش مع عائلتي في مدينة القصر الكبير (شمال المغرب)، وبمساعدة جمعية إسبانية تمكنت أمي من علاجي في إسبانيا التي أجريت فيها عمليتين جراحيتين بعدما فشلت عدة عمليات في المغرب".

أثناء تعافيها، رسمت الجعادي أول لوحة للمستشفى الذي عولجت فيه. كانت يومها في الثانية عشرة. كانت الريشة خفيفة بين إبهام قدمها اليسرى وسبابتها، وهي التي كشفت عن موهبة فنية حقيقية لديها أمنت للجعادي الدخل الذي بات أساسياً بعد وفاة أمها وانشغال عائلتها عنها.

"يعجبني الفن" هكذا تعبر عن النشاط الذي تمارسه يومياً، وتكرّس معظم وقتها له. هي ترسم أيضاً على الكريستال والإكريليك. شاركت في معرضين بإسبانيا، وآخر بفرنسا، وعدة معارض في المغرب، كما تخطط لإقامة معرض في الرباط في ديسمبر/ كانون الأول المقبل.

تقول عن بداياتها الفنية: "بعد علاجي في المستشفى، بتّ أصنع الدمى وأرسم مع أختي، وأخيط بقدميّ. فما لم أتمكن من فعله بيديّ أنجزته بقدميّ. عندما رآني مندوبو الجمعية أرسم، شجعوني على إقامة معرض من خلال شراء الأدوات الفنية. وبالفعل، أقمت معرضاً لأول مرة عام 1995 وكان عمري 15 أو 16 عاماً. شجعني الناس بشرائهم للوحات وثنائهم عليها". وتتابع: "كنت أفضل الرسم على الأكل. وأحببت رسم القرية دائماً، بأشجارها وحيواناتها وطبيعتها".

لم تتمكن الجعادي من تلقي التعليم في المدرسة، بل تلقت دروس محو أمية في الجمعية الإسبانية، وانتقلت للعيش في أصيلة منذ عام 2009. تقول: "المواسم السياحية في مدينة القصر الكبير خفيفة والنشاطات الثقافية ضعيفة. فضلت العيش في أصيلة لأنها تعجبني، فيها مواسم ثقافية سنوية والسياح موجودون طول العام".

تشبه الجعادي مدينة أصيلة الزرقاء الهادئة المطلة على المحيط الأطلسي، والتي تحارب جدرانها الأمواج، وربما يصل الماء إلى أزقتها. هي كذلك تصارع بعد وفاة أمها. تقول: "نويت أن أتعلم اللغة الإنكليزية، لكن مسؤولية الإيجار والمصروف تلاحقني شهرياً، ولا يوجد إلى جانبي أحد يتحمل المسؤولية سواء من الجمعيات أو الأفراد. الحياة صعبة كلياً على الشخص المعوق، وإن لم يهتم بنفسه لن يهتم به أحد أبداً". وبكثير من القناعة والإصرار والثقة، تقول الجعادي إنّها تعلمت من حياتها في المغرب الكثير. تعلمت أنّ الحياة قاسية و"إذا لم يتحملها الإنسان ستغلبه".

لن تتوقف كريمة عن الرسم طالما أنها تطور من أدواتها كلّ مرة. شعور بالفرح والرضا يغمرها كلما استخدمت قدميها لتنجز أحد التابلوهات أو القطع. تقول: "غير الرسم، يمكنني أن أنظف البيت، وأطهو، وأمشط شعري، وألبس ملابسي باستخدام قدميّ. وأحيانا ينضم أصدقائي إليّ ويساعدونني بكلّ هذا". أما عن قدرتها المميزة والفريدة تلك، فتقول: "عندما يفقد الإنسان عضواً من أعضائه، يعتاد على عضو آخر يعوض ما ضاع له. اعتدت على إدارة حياتي بقدميّ، كما يستخدم غيري يديه. بات الأمر عادياً، لكنّه يصبح شاقاً إذا كانت الحاجيات بعيدة عني".

كلّ يوم تقريباً، تجرّ كريمة عربتها الحمراء التي طلبت من أحد الحدادين أن يصنعها لتتسع لأدواتها وأعمالها. تصل إلى ساحة المدينة القديمة وبكل صبر تفرش الأرض وتعرض رسوماتها على المارة في الربيع والصيف والخريف. لكنّها في الشتاء تعاني.. فلا سقف يحمي بضاعتها ولا أي غاليري يمكن أن تضع فيه أعمالها.

تحب الجعادي المسرح كثيراً كذلك. تحب الممثلين وهم يعتلون الخشبة وتسمعهم يتكلمون. كانت في طفولتها تذهب إلى مركز الشباب والرياضة لتشاهد الكواليس ثم العرض. لم تشارك يوماً في التمثيل، لكنّ رغبتها في المسرح تجعلها تفكر جدياً بالمشاركة.

لا تريد أن يبقى إنجازها لها وحدها، بل توجه رسالة إلى الأشخاص المعوقين: "كثيرة هي الإعاقات، وأقول للأشخاص المعوقين إنّ عليهم أن يتحركوا من بيوتهم. لقد جلست طويلاً في البيت وكنت أخجل من الخروج ورؤية الناس لي أرسم بقدميّ. لكنّي بعد التشجيع أصبحت ما أنا عليه الآن". وتضيف: "صحيح أنّ حياتنا ليست كالآخرين، لكننا نعوضها بأشياء كثيرة".

ومع ذلك، لا تغفل عن غياب الحقوق، وتقول: "لا حقوق للأشخاص المعوقين في المغرب، بل ظلم. في أوروبا الأمور مختلفة كلياً". وتنفي أن تكون الحكومة المغربية تقدم مساعدات مستمرة لها، بل كانت مرة وحيدة طلبت فيها من الملك محمد السادس الذي حضر معرضاً شاركت فيه، أن يمنحها رخصة سيارة تاكسي، وبالفعل منحها ذلك. وهي اليوم تؤجر هذه الرخصة بنحو 150 يورو شهرياً بما يكفي لسداد بعض نفقاتها.

إقرأ أيضاً: أسواق أسبوعيّة بإدارة مغربيات
المساهمون