يُعتبر شارع الاستقلال الحيويّ الأكثر جذبا لهذه المجموعات الموسيقيّة والأفراد الموهوبين، فأصبح الشّارع عبارة عن مسرح كبير، وما يميّزه عن دور العرض هو التنوّع من حيث الموسيقى والأعراق، فكلّ مجموعة تُعبّر من خلال موسيقاها عن ثقافة معيّنة تنتمي إليها، فتجد البعض لا يكترث للمردود الماليّ، فكل همّهم إحياء ثقافتهم ليعبّروا عن هويّة لا يشعرون بأنّها حاضرة.
وتجد البعض منهم يستخدم الموسيقى كأداة لتمرير رسائل سياسيّة وتوعويّة لقضايا معيّنة، وغيرهم يشعرون بأنّ الفنّ ملكٌ للجميع فينزلون للشارع على الرّغم من عدم حاجتهم ويعتبرونها رسالة إنسانيّة تنقّيهم وتحافظ على صفاء فنّهم، وآخرون يجدون بموسيقى الشّارع مصدرا لرزقهم، وهذه الفئات تتميّز بالعادة بمواهبها وتكون بمستوى جيّد أو أكثر لا يزعج آذان المارّة بل على العكس يمتّعهم ويغنيهم فيتجمّع الكثيرون من حولهم ليستمتعوا بما يسمعون، وهذا ما فتح شهيّة المتسوّلين ليطوّروا أساليبهم بالتّسوّل، فمنهم من حمل آلات موسيقيّة ووقف إلى جانب الطّرقات يحاول العزف متسوّلًا من المارّة بعض النّقود لقاء عزفه، وهناك من تحاول أن تعزف ومعها طفل رضيع يجلس إلى جانبها لابتزاز مشاعر المارّين. وما يميّز هذه الفئة من العازفين هو رداءة الألحان وإزعاج المارّة بالموسيقى الرديئة وطلب المال بطرق رخيصة.
"أفق"، طالب في سنته الخامسة في كليّة الطبّ البشريّ، يعتبر هو وفرقته من الفرق المعروفة محليّا المتميّزة بعزفها للموسيقى العالميّة. وتتكوّن الفرقة من سبعة عازفين من أعراق مختلفة: الكرديّ، التركيّ والعربيّ، أما الموزّع الموسيقيّ فهو إيرانيّ، وهم أشبه بفسيفساء موسيقيّة تشكّل لوحة فنيّة جميلة لها جمهور واسع.
يقول أفق إنّ فرقته تعزف أسبوعيًا في أهمّ الأماكن المتخصّصة بالفنّ في إسطنبول وإنّهم يتلقّون عروضًا للمشاركة في حفلات ومهرجانات داخل المدن التركيّة وخارجها ولكنّهم يواظبون على العزف بالشّارع كلّما توفّر لهم الوقت لفعل ذلك، فهم على الأقلّ يعزفون بالشّارع، وتحديدًا بشارع الاستقلال، مرّتين في الشّهر. وتعتبر هذه من أهمّ الفعاليات الّتي يقومون بها وعليها توافق من جميع أعضاء الفرقة لما لها من أهميّة تعود عليهم بالإيجاب فتجعلهم متحمّسين أكثر للعزف وتطوير أنفسهم لتقديم ما هو أفضل باستمرار.
إنّ العزف بالشّارع بالنّسبة إليه يختلف كثيرًا عن العزف بالصّالات والمسارح وذلك لعدّة أسباب أهمّها ما يشعرون به كفنّانين بأنّ الفنّ ملكٌ للجميع والموسيقى لحن البسطاء؛ لأنّ أصولها تتحدّر من الطّبيعة والتّعامل مع الأرض والحيوان، ولا يمكن اختزالها بنقود واحتكار، فهم يشعرون بقمّة السّعادة وهم يعزفون دون مقابل، فيعتبرونها جزءا مهمّا لخلق التّوازن الذي كاد أن يفقد بزحمة العقود والعزف مقابل المال. وفي النّهاية يختم أفق حديثه، فيقول: "سنستمرّ بالعزف للنّاس بالشّوارع لنحافظ على إنسانيتنا أوّلًا ومن ثمّ ليكون لنا الحافز الأكبر لتطوير أنفسنا نحو إبداع أفضل".
أمّا "سرحاد"، عازف الإيقاع الصّغير الذي اشتهر بموهبته الفريدة على الرّغم من صغر سنّه، فهو يعزف بالشّارع يوميًا ولا مكان آخر يعزف فيه غيره، ومن خلال عزفه الرّائع يجذب الكثير من المارّة حوله ليعطوه بنهاية المعزوفة المال الوفير، يضعونه في قبّعة صغيرة أمامه. يقول سرحاد إنه يحبّ الموسيقى كثيرًا ويعزف الإيقاع منذ أن كان في الرّابعة من العمر، وهو يستخدم هذه الموهبة لإعالة أمّه المريضة وإخوته الذين يسكنون بحيّ فقير داخل إسطنبول على مقربة من شارع الاستقلال، يقول: "أنا أحبّ العزف، فما المانع من استخدامها كمهنة أساعد بها عائلتي؟".
إنّ جمهور المارّة ينجذب ويتجمّع حول اللّحن الجميل والموهبة الفريدة، فترى الأقدام تقودهم باتجاه العازف دون تفكير فيتجمّعون حوله ويستمتعون بفنّه ما استطاعوا فيضعون له المال بحبّ ويمضون، أمّا المتسوّلون فهم الحالة الشّاذّة الّتي تسيء لهذا المشهد الفنيّ.
فلا مانع من العزف والغناء بالشّارع وأخذ المال شريطة أن يكون العزف والغناء رفيعين يرتقيان بمستوى يليق بالسّامع عندها يكون المال قد قُدّم لعمل جيّد، أمّا إذا كانت الموسيقى واللّحن رديئين فإنهما يكونان أشبه ببضاعة كاسدة تسوّق وتروّج بأدهى وأبخس الطّرق.
(فلسطين)