موسم التطبيع الخليجي

29 أكتوبر 2018
+ الخط -
هناك مواسم للتطبيع العربي مع إسرائيل. تنشط حيناً وتخفتُ حيناً آخر، أتحدث هنا عن التطبيع الذي يجري فوق الطاولة، وليس تحتها.
لاحظت أن التطبيع العلني يحدث كلما كان العالم العربي غارقاً في أزماتٍ تسدّ في وجهه الآفاق، وتحجب عنه الرؤية. يتوقف مسلسل التطبيع، بل ينزوي (وينخزي، من الخزي) كلما امتلك أناسنا القليل من الوقت والطاقة ليفكّروا بما هو أبعد قليلا من سد الرمق. فمن يتذكّر حدثاً تطبيعياً واحداً في زمن الربيع العربي، القصير للأسف، الذي تم التآمر عليه من كل فج عميق؟ لا أظن أن حدثا واحدا وقع في ذلك الزمن المبارك. ولا طبعاً عندما كانت هناك انتفاضاتٌ كبرى في فلسطين المحتلة، ولا عندما كان هناك رمقٌ في جسد المقاومة الفلسطينية. ليس الخجل ما كان يمنع تسلل التطبيع إلى صلب السياسة العربية، بل الخوف.
الآن يبدأ موسم تطبيع جديد مع إسرائيل، جهاراً نهاراً، في الوقت الذي يتصاعد فيه مسلسل القتل والتدمير الإسرائيلي فلسطينياً، وفي ظل أكثر الحكومات الإسرائيلية عنصرية وتطرّفا دينياً وإجراماً، حكومة المجرم نتيناهو الذي يخجل من العلاقة به حلفاؤه الغربيون، وتندّد بتطرّفه القومي والديني قوى يهودية، بل إسرائيلية.
ليس هناك أسوأ من هذا الوقت، لتبدأ أطراف عربية تطبيعاً مع إسرائيل. طبعاً الأمر سيئ في كل الوقت، وسيئ من حيث المبدأ، ليس لأن إسرائيل تحتل أرضا عربية، وتشرد شعبا عربيا، وتدنس مقدسات دينية إسلامية ومسيحية، ليس لهذه الأسباب، على أهميتها، بل لأنها كيانٌ عنصري، قام على القتل والجريمة ولا يزال. لم تكن جنوب أفريقيا أرضا عربية، ولا أوروبية، ولكن هذا لم يمنع أطيافا وشرائح من الأوروبيين والعرب، وأناساً حول العالم، من مقاطعتها على كل الصعد، إلى أن انهار نظام الأبرتهايد. لقد وقفنا، مثقفين وناشطين سياسيين عربا، في وجه نظام الأبرتهايد في جنوب أفريقيا كما لو كنا نفعل ذلك حيال نظام الأبرتهايد الإسرائيلي.
المبدأ نفسه، مع "حبّة مسك": فلسطين أرض عربية لم تكن غير ذلك ولن تكون، أياً كان جبروت القوة التي غيّرت هذا الواقع قليلاً، أو إلى أمد ما.
هذا يعني أنها تشكل أولوية على ما عداها، ليس لأنها، مرة أخرى، أرضٌ عربيةٌ، وفيها مقدساتٌ إسلامية ومسيحية، بل لأن لا حياة ولا تطوّر ولا تنمية ولا ما يحزنون، في منطقتنا، ما دام هذا الكيان الاستعماري يحتل فلسطين. وكل من يفكر عكس ذلك من طنجة إلى حلب، ومن مسقط إلى الدوحة، واهم. لقد رأينا هذا يحدُث بأم العين. ولا نحتاج برهاناً آخر. ومن أسفٍ أن بعض العرب لا يرى ذلك.
وبعض العرب هذا (في الخليج خصوصا) ليس "مضطرّاً" لأيّ شكل من التطبيع، سواء كان رياضياً أم سياسياً على أرفع مستوى. من الممكن لما كانت تسمّى "دول الطوق" أن تجد سبباً للتعامل مع "الواقع" المحيط بها، فهي في "بوز المدفع"، وهي خاضت حروبا ضد إسرائيل وقدّمت آلاف الشهداء، أقول ممكن لبعض العرب أن يتخذ "الواقع" ذريعة لإقامة علاقاتٍ بإسرائيل (وهي ذريعة مرفوضة من شعوب هذه الدول)، فأيُّ ذريعة لعرب بعيدين عن "ساحة المواجهة" آلاف الأميال؟ رجاءً، لا تقولوا لنا: دفع عملية السلام؟ هذا زعمٌ يرقى إلى مستوى المسخرة. أين هو السلام، وأين هي عمليته لكي يصار إلى "دفعها"؟ أم لعل السلام هو التدمير اليومي لغزة وتجويع سكانها، وتركيع أهل الضفة الغربية على الأرض؟ من يريد التطبيع من العرب فليفعل ذلك بعيدا عن فلسطين والفلسطينيين. لم تعد هذه الشمّاعة قادرةً على حمل مزيد من الذرائع والحجج الأقبح من الذنب نفسه.
E7B23353-660D-472F-8CF3-11E46785FF04
أمجد ناصر

شاعر وكاتب وصحفي من الأردن