قبل يوم كان يتكلم تلميحاً عن الوضع السياسي في موريتانيا، لكن سريعاً ما تبدل الوضع في اليوم التالي؛ أصبحت لغته أكثر حدة، بدأ يسمي الأشياء، ويظهر أنه قرأ رسالة الانتخابات الرئاسية التي تجرى غداً السبت جيداً، وأدرك أن الآمال بالتغيير عريضة، غير أن التحديات جسيمة، وهو ما يعرفه المواطنون وخصوصاً في نواكشوط.
العاصمة التي عاشت لأيام أجواء الحملات الانتخابية المحتدمة، بدت أمس وكأنها استعادت هدوءها، إذ أظهرت جولة لـ"العربي الجديد" في عدد من شوارعها أن الحياة تعود تدريجياً إلى سابق عهدها. هدوء يخيم على الشوارع والملتقيات والطرق، وصور المرشحين تكاد تختفي من الطرق الرئيسية والميادين، باستثناء بعض الصور، تحديداً تلك المنسية في الأزقة والفضاءات الرملية الخلاء.
الفرق الوحيد كان في مقر لجنة الانتخابات، حيث يصل إعلاميون ومراقبون أفارقة. يحاول الفريق العامل تدارك الوقت، وتلبية الطلبات. نطلب من موظف بعض الخدمات، ننتظر، ثم تجرى الاتصالات، وننتظر، ونأخذ وعداً من أحد المسؤولين بالاستجابة لطلبات يوم التصويت.
خارج هذا المكان المحروس، لا شيء يعبّر على أن حملة انتخابية كانت هنا. في الجوّ الحارّ في الخارج يمضي الزمن متثاقلاً. يعبر الموريتانيون غير آبهين إلا بشؤونهم الخاصة، وكأن هناك إدراكاً مسبقاً، بأنه "ما حك جلدك مثل ظفرك".
في الطريق، نتوقف على قارعة، حيث يبيع شباب موريتانيون سود ملابس ويعرضون أشياء أخرى للعابرين. نتوقف، نسألهم عن مرشحهم المفضل، يشهر أحد الشبان معروضاته في وجهنا، ويطلب منا الشراء، يقول بلغة فرنسية جيدة: "هذا هو مرشحي، اشتر مني شيئاً"، ويبتسم بوداعة، وبحنكة البائع المدرب على تسويق بضاعته.
اللغة الفرنسية هنا شائعة الاستعمال في التداول اليومي لجزء كبير من الموريتانيين، وخصوصاً أصحاب البشرة السوداء والحراطين. ربما يبرعون فيها لتمييزهم، وربما لأنها تمنحهم نوعاً من الأفضلية، فاللسان أحياناً كثيرة يعوّض عن "شرف القبيلة" المفترى عليه.
يؤكد أحد الشباب الموريتانيين في حديث مع "العربي الجديد"، أن الفوارق الاجتماعية ظاهرة هنا، وأن الانتخابات في كل موعد من مواعيدها، تكشف عن الأعماق المستورة في المجتمع. ويقرّ بأن هناك مخاطر متعاظمة تواجه الأمة الموريتانية، أهمها التفاوتات الطبقية. تتوقف أمامنا شاحنة صهريجية للتزود بالماء، يقول لي، انظر إلى هؤلاء الشباب السود العاملين في هذه الشاحنات، أغلبهم متعلمون، لكن لا مجال أمامهم للحصول على عمل في العاصمة ولا في مناطقهم، ولذلك تتحول نواكشوط إلى مستقبل أول للهجرة الداخلية والهجرة الأفريقية أيضاً.
نمرّ من أمام الوكالة الوطنية للتشغيل، يقول مرافقي: "ما تراه هنا من طوابير الشباب هو لتسليم طلبات العمل". أسأله هل تلبي المناصب المعروضة الحاجات؟ يرد: "محال، هناك ألف سبيل للواسطة، أما من سيحالفهم الحظ ففئة قليلة، تنتظر فرصة في بحر".
البارحة كان السؤال هو لمن ستصوّت؟ اليوم أصبح الموريتانيون أكثر توجساً؛ لقد اقتربت اللحظة الحاسمة، وهناك ظلال من التجارب السابقة لا تزال مخيمة على العقول.
يقول الرجل البيضاني، الذي اندفع نحوي محتجاً على تصويره، بعد أن هدّأت خاطره، وقدمت له نفسي: "يا أخي لقد تعبنا من الأكاذيب، كل واحد يأتي يقدم وعوداً، وحين يصل إلى الكرسيّ، يلهف المال ويمضي لحال سبيله دون أن يحدثه أي أحد".
في الظهيرة كان هناك رجال يطالبون بحقهم في الحصول على سيارات تقلّهم يوم السبت إلى مكاتب التصويت. لقد وجدوا أن الوعود التي قدمت لهم من طرف أحد المرشحين قد تبخرت، وقام المعاونون له بغلق هواتفهم. يتحسرون، وهم يدركون أنه من المستحيل أن يصلوا غداً إلى مكاتب التصويت البعيدة في أطراف ولايات نواكشوط.
الفتيات الثلاث طلبن منا صراحة نقوداً، كن يلبسن أقراطاً أفريقية متدلية، ولا يهمهن من سيفوز. فقط يرغبن في الحصول على نقود آنية لحلّ مشكلة عيش لا تكف عن التمدد.