منذ شهرين، أراقب هذا المحلّ قرب منزلي، الذي حوّله صاحبه إلى مطعم "سوشي" صغير. ما الذي يدفع بالرجل ليفتح مطعماً يابانياً في حيّ سكني، حيث لا أحد سيقدم على الدخول إليه أو يقصده ليأكل السمك النيء؟
جرت العادة أنّ من يفكر في مطعم ياباني، هو على الأرجح يرغب في خروج احتفالي إلى مطاعم فاخرة، أو على الأقل يخرج إلى وسط المدينة وأمكنة السهر، أو أنه سيقصد مطعماً يابانيّاً معروفاً، طالما أن من يتناول السوشي والساشيمي ليس كمن يشتري سندويش فلافل.
منذ شهرين، لم يدخل أحد، على حد علمي، إلى هذا "الدكان". فقط صاحبه يظل جالساً أمام واجهته الزجاجية، فيما العاملة الآسيوية تقف دوماً خلف بار الخدمة.. ولا زبائن. يشبه هذا الأمر أن يقوم أحدهم في أيامنا هذه بافتتاح محل تأجير أفلام الفيديو "البيتاماكس" و"في. أتش. أس"!
ربما الرجل، في مشروعه المطعميّ، انتبه متأخراً بعض الشيء إلى موجة السوشي في لبنان، حين انتشرت في بيروت خلال العقدين الماضيين، عشرات المطاعم اليابانية. كان السمك النيء هو الموضة، أو هو علامة "الطليعية" في الذوق وفي دعوات العشاء الرومانسية. كانت حمّى المطاعم اليابانية مقترنة أيضاً بسنوات السياحة ومواسمها المزدهرة، وبحمّى ازدهار اقتصادي – خدماتي، وبرغبة اللبنانيين الجارفة حينها في عصرنة عاصمتهم وحياتهم.
مطاعم آسيوية
في الزمن الياباني هذا، انتشرت أيضاً ولو بنسبة أقل، المطاعم الصينية والتايلاندية، وتزامن هذا مع أفول نجم المطاعم الفرنسية وتراجعها، بعدما كانت "تاريخيّاً" هي علامة الرفعة والأبهة في بيروت. بينما تحولت المطاعم الإيطالية إلى شبهة "الشعبية"، ولا تناسب من يسعى إلى التمايز والفخامة، حتى أن البيتزا باتت "لبنانية" بمعنى من المعاني، طالما أن أغلب أفران المناقيش تبيعها أيضاً. بل إن الطعام الإيطالي صار أكل كل يوم، وفي متناول "الديلفري" (خدمة التوصيل المجاني إلى المنازل)، وجزءاً من الوجبات السريعة "الفاست فود".
التطور المطعمي الذي أصاب بيروت مع الموجة اليابانية، قابلها من وجه "طبقي" آخر، وصول سلسلة مطاعم "الجانك فود"، الأميركية المصدر، بعلاماتها التجارية المعروفة حول العالم، وبوصفها رمز انتصار الصيغة الرأسمالية لـ"الرفاهية" الشعبية الجذابة: الهامبرغر والدجاج المقلي وتنويعاتهما. وكان المشهد في مطلع التسعينيات، يشبه إلى حد بعيد مشهد افتتاح ماكدونالدز في الساحة الحمراء في موسكو: بداية زمن جديد. لكن "نجومية" الفاست فود، وهو المعروف منذ الستينيات في شوارع بيروت، خمدت بسرعة وتحولت إلى طعام من لا يبالي ولا مال كافٍ ولا وقت لديه.
في تلك الفترة، كان اللبنانيون قد ضجروا من المطاعم اللبنانية: المازة، المقبلات والمشاوي واللحم النيء.. ورغم ثبات تلك المطاعم وعراقتها وما أدخلته من تحديثات، خصوصاً في الخدمة وأشكال التقديم ورهافة النكهات، إلا أنها صارت مخصصة أكثر للسياح، فيما اندفع اللبنانيون نحو استكشاف المآكل الجديدة، في مقدمها اليابانية والتايلاندية والصينية والهندية، بل إن مطعمين أرجنتينيين افتتحا في وسط بيروت، وأخرى مطاعم مكسيكية. وثمة من اتجه إلى فتح مطاعم عراقية متواضعة، يقدم فيها أيضاً بعض الأكلات الخليجية الشعبية، تلبية لمتوسطي الحال من سياح تلك البلاد. كانت بيروت تقدم طعاماً "كوزموبوليتياً" لأول مرة منذ زمن بعيد.
دامت موضة "السوشي" طوال عهد الاستقرار النسبي والبحبوحة النسبية، ومع سنوات التفاؤل والسياحة والوعود الخلابة، وطموحات مضاهاة دبي..، لكن مع الضربات الأمنية المتوالية، والاضطرابات السياسية الخطيرة، والعواقب الاقتصادية وهيمنة التشاؤم، بدأ الانكماش في كل شيء وأصاب أوجه الحياة ضمور كئيب.
أنواع المأكولات
كان للمطاعم اليابانية نظام معقد، لا يمكن أن يعمل إلا في مدن تمتلك بنية قوية من التسهيلات وصلة متينة بنظام مواصلات عالمي، واتصال تجاري سريع مع الأسواق. فأنواع السمك النيء والأعشاب البحرية الخاصة والتوابل والمواد الأخرى، لا يمكن تأمينها طازجة وبنوعية جيدة إلا من الأسواق الآسيوية البعيدة.
أي تعثر في سرعة الحصول عليها وفي سرعة توزيعها واستهلاكها، يتلف كل المشروع. عدا ذلك، فإن تقنيات الطعام الياباني لا يتقنها إلا طهاة يابانيون، ولا يقبل الزبائن أصلاً تناول السوشي والساشيمي إلا على يد حملة السكاكين اليابانيين المهرة. فالطقس الأبرز في تلك المطاعم هي مشاهدة أولئك اليابانيين وهم يعدّون المأكولات. كان جلبهم إلى بيروت شرطاً أساسيّاً للاستثمار الناجح في مطعم ياباني. وعليه، كان تدهور أوضاع البلد كفيلاً بزعزعة كل النظام الذي يشترطه وجود المطاعم اليابانية. هكذا، تقلص على نحو حاد عدد المطاعم الآسيوية في بيروت، كما انسحب هذا التقلص على كل أوجه الصناعة السياحية. وتعويضاً عن ذلك، اكتشف اللبنانيون في الأثناء، أنواعاً من السمك المحلي الذي يصلح أكله نيئاً، فأدخلوه على قوائم طعامهم ومازتهم ومقبلاتهم. اخترعوا "سوشي" لبناني، تماماً كما فعلوا بالبيتزا سابقاً.
هكذا، لم يبق من ألق الزمن الياباني في بيروت سوى ذلك الدكان، في ذاك الحي السكني الناعس.