1- الموجة الأبدية
في الفيلم الألماني (Die Welle) أو "الموجة"، والذي أخرجه دينيس غانسل عام 2008، يسأل المعلم الجديد تلاميذه إن كانت ألمانيا الحديثة محصنة ضد الديكتاتورية أو عودة النازية، يؤكدون جميعاً ذلك، ولكن الأستاذ يقرر وضعهم في تجربة عملية لاختبار يقين البراءة هذا.
يخترع لهم الأستاذ رابطة اسمها الموجة، وشعارها يشبه موجة بحر بسيطة، وخلال وقت قصير تصبح هذه الرابطة حركية ونفسية بين الطلاب، لها شعاراتها الخاصة، وطقوس الانتماء، ومحاولتها الظهور كجماعة متمردة ضمن المجتمع، واتهامات الخيانة أو الجبن بين أعضائها، وصولاً حتى محاولة أحد الطلاب قتل الأستاذ نفسه حين قرر إنهاء التجربة، كانت "الموجة" سبيل بعض الطلاب الوحيد نحو الشعور بالمعنى والانتماء والتفوق.
في تجربة واقعية مشهورة، أجرى فريق من الباحثين النفسيين في جامعة ستانفورد عام 1971م تجربة "سجن ستانفورد"، عبر مجموعة من المتطوعين تم تقسيمهم إلى سجانين ومسجونين، إن هذه الأدوار الوظيفية أو "التمثيلية" سرعان ما تحولت إلى أدوار نفسية وشعور بالانتماء للجماعة الجديدة، تحاكي الصراع الاجتماعي السياسي حول الهيمنة والسيطرة، ومارس السجانون أفعالاً عنفية شنيعة تجاه زملائهم المسجونين، رغم أنهم غير ملزمين بذلك، ما أدى إلى وقف التجربة أمام مساءلات أخلاقية جدلية.
وقد تمت محاكاة هذه التجربة في أكثر من فيلم سينمائي، لعلّ أشهرها الفيلم الألماني أيضاً (Das Experiment) الذي أخرجه أوليفر هيرشبيغل عام 2003م (وهو مخرج الفيلم المعروف عن سقوط هتلر DOWNFALL).
تحاول التجربتان، السينمائية والأكاديمية، أن تفهما دينامية تشكل الجماعات، أو بالأحرى عملية انتماء الإنسان إلى الجماعة، واقتناعه بالدور المسلّم له ضمنها، في سيرورة صناعة الذات والآخر، وتختلف مقاربات تشكل الجماعات (والمجتمع قبل ذلك) حسب مرجعية الباحث نفسه، اقتصادية أو نفسية أو ثقافية أو لغوية أو اجتماعية أو سياسية، والأخيرة تبدو المحصلة الواقعية الأخيرة لأي مقاربة.
إن التعامل مع الجماعات، سواء كانت ذات طابع أيديولوجي أو طائفي أو قومي، باعتباره حتمية جوهرانية في الإنسان، طالما كان من أدوات هذه الجماعات نفسها في تعريف ذاتها وفي صنع العدو، حسب عنوان كتاب الباحث والدبلوماسي الفرنسي بيار كونيسا (أو حسب عنوانه الفرعي: كيف تقتل بضمير مرتاح)، وفهم السياق التاريخي لنشأة هذه الجماعات لا يلغي تأثيرها وواقعيتها كانتماءات فاعلة سياسياً واجتماعياً، في الطرف المقابل.
ولكن ثمة إلحاحاً شخصياً لدي، أمام الشخصيات العصابية الممثلة للأيديولوجيات القصوى، في الرجوع للعامل السايكولوجي وراء هذه الظواهر، والذي يتفوق هنا على التحليل الأيديولوجي أو السوسيولوجي، إن لم يكن يصنعهما كبروباغندا حشد وتعبئة لدى الشباب الباحثين عن أبطال رمزيين وجماعة حاضنة، هل كان يمكن أن تتطور النازية لولا كاريزمية هتلر وخطاباته الغاضبة؟!
يحتاج الإنسان إلى جماعة متخيلة توفر له المعنى ومجال التواصل وقوة مواجهة الآخر في صحراء الواقع الصعب، إن الجماعات - قومية أو دينية أو سياسية - تبدأ من سايكولوجيا الطفل.
يخبرنا إريك فروم في كتابه "الخوف من الحرية"، (وهو ضمن الموجة العامة من مراجعة الذات الغربية التي عصفت بالمثقفين الغربيين بعد مرحلة صعود الفاشيات والحرب العالمية الثانية في محاولة إجابة عن سؤال: كيف وصلنا إلى هنا؟!)، يخبرنا أن حرية الإنسان وحاجته للتواصل مع المجتمع منذ طفولته تنبني بالأساس من نقص في ردود الأفعال الغريزية التي توفر له الإشباع كالحيوان، إنه محتاج للتواصل مع والديه لفترة أطول، والمعاناة مع مسارات فعل متعددة وخطرة مع المحيط، "إن الضعف البيولوجي للإنسان هو شرط الحضارة الإنسانية"، كما يقول فروم، ولكنه يصبح شرط تدمير هذه الحضارة أيضاً.
إنها جماعات متخيلة إذن، حسب مصطلح بيندكت أندرسون في كتابه الذائع الصيت، أو جماعات مصنطعة، كحدود كثير من الدول التي صنعت - أو تحاول - قومياتِ شعوبها.
وحسب الجغرافي والديبلوماسي الفرنسي ميشال فوشيه في كتابه "جبهات وحدود" (حسب ما ينقل بيار كونيسا في صنع العدو)، فإن ثمة 252,000 كلم من الحدود السياسية كانت تقسم كوكبنا في عام 1991م، 60% منها فرضت بجهات خارجية بالنسبة للبلدان المعنية، إضافة إلى90,000 كلم هي حدود حديثة منذ عام 1991م.
في مقالة بعنوان "اختراع العدو" للكاتب الإيطالي امبرتو إيكو (صاحب الرواية العظيمة: اسم الوردة)، يقول إيكو إنه ركب في نيويورك مع سائق تاكسي باكستاني فسأله عن بلده وأجابه: إيطاليا، فسأله الباكستاني فوراً: من هو عدوكم ؟!، يصبح العدو جزءاً من تعريف الذات، أهمّ من الذات نفسها أيضاً.
لدى الجماعات الأيديولوجية القصوى يصبح الإنسان ذا بعد واحد يتبع تماهيه مع منظومة السلطة وعقيدتها المعلنة (وهذا استعمال محرّف لمصطلح هربرت ماركوزه)، ولا مكان لاختلافات أو دوافع إنسانية متجاوزة ليوتوبيا السلطة.
ولعل حقبة الفاشيات والتوتاليتاريات الغربية، بخاصة روسيا ستالين وألمانيا هتلر، وهو ما تكرره إيران الخميني وتابعُها الأسد حالياً وإن بشكل سخيف، يفتقد كاريزمية وعظمة الأولين ويبقي إجرامهما، توضح إلى أي مدى يمكن أن يقتنع حدّ التفاني جموع من البشر بفكرة تبدو - عدا عن لاأخلاقيتها ولاإنسانيتها - جنونية تماماً، وهي أنهم وحدهم من لهم حق الحقيقة والوجود وشطب الآخر الذي لم يعد إنساناً بلا أدنى مبالاة، وفي سورية فإن الأمم المتحدة - قلعة القانون الإنساني - تشجع القتلة على هذه اللامبالاة لكسب أكبر رصيد من أهلنا الضحايا قبل تغير مزاج الدم الدولي.
وإن أخذنا غلاة الجماعات السلفية الجهادية مثالاً، تصبح ثمة مماهاة مطلقة بين الديني والسياسي، والإنسان هو كائن ديني فقط بدوافعه وأفعاله (في مقال سابق في جيل العربي الجديد تكلمت عن هذا المنظور في الدراسات التاريخية "في بؤس أدلجة التاريخ")، وحتى الأيديولوجيات العلمانية أو الإلحادية ليست خالصة من "الديني" بالمعنى الذي يضعونه هم للدين كرؤى سحرية غير مبرهنة، باعتبارها تستند في النهاية إلى مسلمات ميتافيزيقية مغلفة بطابع من العلموية الزائفة أحياناً.
يُلغى الطابع المتعدد لدوافع الأفعال داخل الإنسان ليُلغى التعدد ضمن المجتمع السياسي. ومن لا يستوعب أي اختلاف سياسي أو فكري معه إلا كمفاصلة عقدية، لا يقف عند وهم أنه وكيل الدين وحده، بل مآله دين حلولي يرى أن الإله تجسد فيه أو في جماعته، وبالتالي فهو من يمنح حق الحياة، إنه وكيل الوجود.
لعل البراهمية الهندية والمانوية الفارسية كانت أوضح الديانات في التقسيم الثنائي للعالم، إله الخير وإله الشر، والذي يستتبع عالم الخير الذي نمثله نحن وعالم الشر الذي يمثله الآخر، وهي ما نستعيده من خلال خطابات سياسية أو أنظمة عسكرية أو حركات جهادية في عالمنا المعاصر.
(في الفقرة التالية مسودة مقال، أضفت لها بعض التوضيحات فقط، كنت كتبته قبل قرابة عام ونصف ولم أنشره، ضمن لغة وعالم مختلف رغم قصر المدة الفاصلة، واكتشفته - أو تذكرته - صدفة بينما أفكر بالفيلم الأول).
2- المانوية المحدثة
ما يفرق بين جماعة متطرفة (أو ما نسميه الأيديولوجيات القصوى) وبين أي جماعة عقدية أو ايديولوجية أخرى، ليس الإيمان بصوابية العقيدة وخطأ الآخر، فهذا شأن كل جماعة تقوم على فكرة أو رسالة، وإنّما هو في تجريد الآخر، لا من الصواب الفكري وحده، و إنما من وصفه "الذاتي" أيضاً وحقه بالوجود.
فالآخر ليس ذاتاً، وإنما هو موضوع مجرّد يحمل نقيض الذات الشرعية الوحيدة المعرّفة كإنسان مكرم، أي ذات الجماعة، و هذا ما يسقط عنه حقوقه، إذ ما دام الآخر مجرد موضوع لنا لا بتصنيفه الفكري (السياسي، الديني، القومي... الخ) فقط وإنما هو موضوعنا حتى بكينونته ووجوده، فلا مرجع للحكم على شرعية ما يجري عليه من إقصاء أو اعتقال أو قتل خارج إرادتنا وحدها.
هذه "الإثنينية" حاضرة في التصور البشري وفي الديانات القديمة، وهي من طبائع القيم نفسها بما هي مثل قصوى ونظرية، (والقول اليوناني إن الفضيلة وسط بين رذيلتين تطور حقيقي في الفهم المركب للأخلاق لكنه لم يتحرر من إثنينيتها فهي من طبيعة القيم الكلية).
لعل الخلل ليس في التصور الإثنيني حين يكون في حدود الكليات النظرية، وإنما حين يُراد له ان يتحكّم في الجزئيّات البشريّة المتعيّنة، حينها تتحول الجماعة إلى تمثل تام للفكرة، تجسد حلولي للإله، وكلّ نقص عن هذا التمثّل هو نقيض بالضرورة وعدوّ بالضرورة، فلا مساحة في هذا التصور لغير أنا تامة ناجزة متوحدة مع فكرتها، ومع آخر خائن للحقيقة وعدوّ لها (عميل، مرتد، إرهابي...الخ).
هذا ما يجعل من أي جماعة متطرفة معادية للواقع بالضرورة، حتى وإن تمكنت من التحكم فيه جزئيّاً، فالواقع متفلت دوماً وفوضوي، كما هو الإنسان الذي يحضر في التاريخ كتجربة حيّة لا كنموذج ناجز ومعلّب، وهذا ما يجعل من أي تنظيم معادٍ للتاريخ معادياً للإنسان نفسه بالضرورة.
لم يكفّ الإنسان عن استنساخ هذه "الإثنينية" المتطرفة في ملابس أيديولوجيات مختلفة، علمانية سلطويّة أكثر مما هي دينية، هذا ينطبق على الصهيونية وعلى النازية وعلى مسيحية حروب الاستباحة ومحاكم التفتيش وعلى إمبريالية التنوير وعلى المجازر الطائفية وعلى خطاب المحافظين الجدد، أو ما ندعوه بخطاب الإرهاب، وينطبق بطبيعة الحال على بعض الجماعات الإسلامية الجهاديّة كذلك، أي أن هذا الخطاب في جوهره الباطن متشابه مع أي خطاب آخر معادٍ له في الظاهر.
يشير الفيلسوف طه عبدالرحمن في كتابه "الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري" في نقده لخطاب المحافظين الجدد حول الحرب على الإرهاب، إلى أن جذور هذا الخطاب هي "مانويّة"، مشيراً إلى الديانة الفارسيّة التي تقول بثنائية الخير والشر.
وهذه ملاحظة ذكية وسديدة، وإن كنت أرى أنّه بالنسبة لخطاب المحافظين الجدد، أي في الحيز الغربي، فإن جذور هذا الخطاب أكثر تعلّقاً بالخطاب الفلسفي والسياسي اليوناني، والذي كان يعتبر - ولعلّ أشهر من كان خطابه على هذا هو أرسطو - أنه ثمة عالمان: عالم اليونان "الرجال"، ويتعلق به الكلام عن الدول والمدن الفاضلة والحقوق السياسية، وعالم البرابرة المستباح.
ويشير ديفيد جونسون، مؤلّف كتاب "مختصر تاريخ العدالة"، إلى أن أول من تكلم عن تساوي البشر وإلى أن هناك صفة "إنسانية" تجمعهم، كانوا الفلاسفة الرواقيين، وأشاروا لها كفكرة لا كمرتكز لفلسفتهم بطبيعة الحال، وهذه الفكرة لم تأخذ مداها وانتشارها إلا مع المسيحية ثمّ مع الإسلام.
أي أن ما نعتبره الآن بداهة ومن الجريمة إنكارها، فيما يتعلق بأن هناك حقوقاً للإنسان بما هو إنسان، وأنّه "كلّكم لآدم وآدم من تراب"، هي فكرة حديثة نسبيّاً في تاريخ البشرية.
معظم مسلمات كل عصر هي نتيجة سيرورة طويلة من الاكتشاف والبناء والتحولات، هذا في حيز التقنية أوضح مما هو في حيز الفكر، ولكن الفكر ليس بريئاً من ذلك بطبيعة الحال.
في الواقع السوري اليوم (كتب هذا النص في 7 يوليو/ تموز 2014م)، نشهد تمظهرات مختلفة لهذه "الإثنينية" تتصارع فيما بينها، ما بين خطاب الممانعة الإيراني وخطاب الإرهاب الأميركي وخطاب تنظيم الدولة (داعش) الذي تجاوز خطاب القاعدة القديم بمراحل.
ولكن الجسد الأكبر من الحراك الثوري العظيم، سواءٌ كان من التيارات الإسلامية الأيديولوجية، أو ممن لم يبلغوا مرحلة الأيديولوجيا وينتمون للتديّن المجتمعي، ما زالوا داخل التاريخ وقادرين بذلك على التأثير فيه بناءً لا تدميراً فقط، وقادرين على مواجهة الخطاب المعادي للتاريخ والمجتمع - أياً كان مصدره - بوعيٍ يتحرك في التاريخ والمجتمع نفسه.
ولعلّ أخطر المسكوت عنه، في ظهور هذه الجماعات المعادية للتاريخ وتسيّدها، هو أنّها تجعل من التخلّي عن العقلانيات والبداهات حقّا طبيعياً، بل حتى واجباً على من يدخلون في منظومتها وعلى من سيخضعون لها بالضروة، لا أنه جريمة كما ينبغي أن تكون.
3-
أردت أن أسأل في نهاية المقال(ين)، تبعاً لسؤال الفيلم الأول: هل نحن محصنون ضد الديكتاتورية أو الفاشية أو التكفيرية أو (... إلخ)، ولكن الواقع الذي أنتجته الثورات المضادة في مجتمعاتنا ضمن حربها المستميتة على الربيع العربي وهو نقطة الضوء الوحيد في تاريخ العربي المنكوب، جعل هذه الأسئلة من الماضي: لقد اخترقَنا كل شيء!
(سورية)
في الفيلم الألماني (Die Welle) أو "الموجة"، والذي أخرجه دينيس غانسل عام 2008، يسأل المعلم الجديد تلاميذه إن كانت ألمانيا الحديثة محصنة ضد الديكتاتورية أو عودة النازية، يؤكدون جميعاً ذلك، ولكن الأستاذ يقرر وضعهم في تجربة عملية لاختبار يقين البراءة هذا.
يخترع لهم الأستاذ رابطة اسمها الموجة، وشعارها يشبه موجة بحر بسيطة، وخلال وقت قصير تصبح هذه الرابطة حركية ونفسية بين الطلاب، لها شعاراتها الخاصة، وطقوس الانتماء، ومحاولتها الظهور كجماعة متمردة ضمن المجتمع، واتهامات الخيانة أو الجبن بين أعضائها، وصولاً حتى محاولة أحد الطلاب قتل الأستاذ نفسه حين قرر إنهاء التجربة، كانت "الموجة" سبيل بعض الطلاب الوحيد نحو الشعور بالمعنى والانتماء والتفوق.
في تجربة واقعية مشهورة، أجرى فريق من الباحثين النفسيين في جامعة ستانفورد عام 1971م تجربة "سجن ستانفورد"، عبر مجموعة من المتطوعين تم تقسيمهم إلى سجانين ومسجونين، إن هذه الأدوار الوظيفية أو "التمثيلية" سرعان ما تحولت إلى أدوار نفسية وشعور بالانتماء للجماعة الجديدة، تحاكي الصراع الاجتماعي السياسي حول الهيمنة والسيطرة، ومارس السجانون أفعالاً عنفية شنيعة تجاه زملائهم المسجونين، رغم أنهم غير ملزمين بذلك، ما أدى إلى وقف التجربة أمام مساءلات أخلاقية جدلية.
وقد تمت محاكاة هذه التجربة في أكثر من فيلم سينمائي، لعلّ أشهرها الفيلم الألماني أيضاً (Das Experiment) الذي أخرجه أوليفر هيرشبيغل عام 2003م (وهو مخرج الفيلم المعروف عن سقوط هتلر DOWNFALL).
تحاول التجربتان، السينمائية والأكاديمية، أن تفهما دينامية تشكل الجماعات، أو بالأحرى عملية انتماء الإنسان إلى الجماعة، واقتناعه بالدور المسلّم له ضمنها، في سيرورة صناعة الذات والآخر، وتختلف مقاربات تشكل الجماعات (والمجتمع قبل ذلك) حسب مرجعية الباحث نفسه، اقتصادية أو نفسية أو ثقافية أو لغوية أو اجتماعية أو سياسية، والأخيرة تبدو المحصلة الواقعية الأخيرة لأي مقاربة.
إن التعامل مع الجماعات، سواء كانت ذات طابع أيديولوجي أو طائفي أو قومي، باعتباره حتمية جوهرانية في الإنسان، طالما كان من أدوات هذه الجماعات نفسها في تعريف ذاتها وفي صنع العدو، حسب عنوان كتاب الباحث والدبلوماسي الفرنسي بيار كونيسا (أو حسب عنوانه الفرعي: كيف تقتل بضمير مرتاح)، وفهم السياق التاريخي لنشأة هذه الجماعات لا يلغي تأثيرها وواقعيتها كانتماءات فاعلة سياسياً واجتماعياً، في الطرف المقابل.
ولكن ثمة إلحاحاً شخصياً لدي، أمام الشخصيات العصابية الممثلة للأيديولوجيات القصوى، في الرجوع للعامل السايكولوجي وراء هذه الظواهر، والذي يتفوق هنا على التحليل الأيديولوجي أو السوسيولوجي، إن لم يكن يصنعهما كبروباغندا حشد وتعبئة لدى الشباب الباحثين عن أبطال رمزيين وجماعة حاضنة، هل كان يمكن أن تتطور النازية لولا كاريزمية هتلر وخطاباته الغاضبة؟!
يحتاج الإنسان إلى جماعة متخيلة توفر له المعنى ومجال التواصل وقوة مواجهة الآخر في صحراء الواقع الصعب، إن الجماعات - قومية أو دينية أو سياسية - تبدأ من سايكولوجيا الطفل.
يخبرنا إريك فروم في كتابه "الخوف من الحرية"، (وهو ضمن الموجة العامة من مراجعة الذات الغربية التي عصفت بالمثقفين الغربيين بعد مرحلة صعود الفاشيات والحرب العالمية الثانية في محاولة إجابة عن سؤال: كيف وصلنا إلى هنا؟!)، يخبرنا أن حرية الإنسان وحاجته للتواصل مع المجتمع منذ طفولته تنبني بالأساس من نقص في ردود الأفعال الغريزية التي توفر له الإشباع كالحيوان، إنه محتاج للتواصل مع والديه لفترة أطول، والمعاناة مع مسارات فعل متعددة وخطرة مع المحيط، "إن الضعف البيولوجي للإنسان هو شرط الحضارة الإنسانية"، كما يقول فروم، ولكنه يصبح شرط تدمير هذه الحضارة أيضاً.
إنها جماعات متخيلة إذن، حسب مصطلح بيندكت أندرسون في كتابه الذائع الصيت، أو جماعات مصنطعة، كحدود كثير من الدول التي صنعت - أو تحاول - قومياتِ شعوبها.
وحسب الجغرافي والديبلوماسي الفرنسي ميشال فوشيه في كتابه "جبهات وحدود" (حسب ما ينقل بيار كونيسا في صنع العدو)، فإن ثمة 252,000 كلم من الحدود السياسية كانت تقسم كوكبنا في عام 1991م، 60% منها فرضت بجهات خارجية بالنسبة للبلدان المعنية، إضافة إلى90,000 كلم هي حدود حديثة منذ عام 1991م.
في مقالة بعنوان "اختراع العدو" للكاتب الإيطالي امبرتو إيكو (صاحب الرواية العظيمة: اسم الوردة)، يقول إيكو إنه ركب في نيويورك مع سائق تاكسي باكستاني فسأله عن بلده وأجابه: إيطاليا، فسأله الباكستاني فوراً: من هو عدوكم ؟!، يصبح العدو جزءاً من تعريف الذات، أهمّ من الذات نفسها أيضاً.
لدى الجماعات الأيديولوجية القصوى يصبح الإنسان ذا بعد واحد يتبع تماهيه مع منظومة السلطة وعقيدتها المعلنة (وهذا استعمال محرّف لمصطلح هربرت ماركوزه)، ولا مكان لاختلافات أو دوافع إنسانية متجاوزة ليوتوبيا السلطة.
ولعل حقبة الفاشيات والتوتاليتاريات الغربية، بخاصة روسيا ستالين وألمانيا هتلر، وهو ما تكرره إيران الخميني وتابعُها الأسد حالياً وإن بشكل سخيف، يفتقد كاريزمية وعظمة الأولين ويبقي إجرامهما، توضح إلى أي مدى يمكن أن يقتنع حدّ التفاني جموع من البشر بفكرة تبدو - عدا عن لاأخلاقيتها ولاإنسانيتها - جنونية تماماً، وهي أنهم وحدهم من لهم حق الحقيقة والوجود وشطب الآخر الذي لم يعد إنساناً بلا أدنى مبالاة، وفي سورية فإن الأمم المتحدة - قلعة القانون الإنساني - تشجع القتلة على هذه اللامبالاة لكسب أكبر رصيد من أهلنا الضحايا قبل تغير مزاج الدم الدولي.
وإن أخذنا غلاة الجماعات السلفية الجهادية مثالاً، تصبح ثمة مماهاة مطلقة بين الديني والسياسي، والإنسان هو كائن ديني فقط بدوافعه وأفعاله (في مقال سابق في جيل العربي الجديد تكلمت عن هذا المنظور في الدراسات التاريخية "في بؤس أدلجة التاريخ")، وحتى الأيديولوجيات العلمانية أو الإلحادية ليست خالصة من "الديني" بالمعنى الذي يضعونه هم للدين كرؤى سحرية غير مبرهنة، باعتبارها تستند في النهاية إلى مسلمات ميتافيزيقية مغلفة بطابع من العلموية الزائفة أحياناً.
يُلغى الطابع المتعدد لدوافع الأفعال داخل الإنسان ليُلغى التعدد ضمن المجتمع السياسي. ومن لا يستوعب أي اختلاف سياسي أو فكري معه إلا كمفاصلة عقدية، لا يقف عند وهم أنه وكيل الدين وحده، بل مآله دين حلولي يرى أن الإله تجسد فيه أو في جماعته، وبالتالي فهو من يمنح حق الحياة، إنه وكيل الوجود.
لعل البراهمية الهندية والمانوية الفارسية كانت أوضح الديانات في التقسيم الثنائي للعالم، إله الخير وإله الشر، والذي يستتبع عالم الخير الذي نمثله نحن وعالم الشر الذي يمثله الآخر، وهي ما نستعيده من خلال خطابات سياسية أو أنظمة عسكرية أو حركات جهادية في عالمنا المعاصر.
(في الفقرة التالية مسودة مقال، أضفت لها بعض التوضيحات فقط، كنت كتبته قبل قرابة عام ونصف ولم أنشره، ضمن لغة وعالم مختلف رغم قصر المدة الفاصلة، واكتشفته - أو تذكرته - صدفة بينما أفكر بالفيلم الأول).
2- المانوية المحدثة
ما يفرق بين جماعة متطرفة (أو ما نسميه الأيديولوجيات القصوى) وبين أي جماعة عقدية أو ايديولوجية أخرى، ليس الإيمان بصوابية العقيدة وخطأ الآخر، فهذا شأن كل جماعة تقوم على فكرة أو رسالة، وإنّما هو في تجريد الآخر، لا من الصواب الفكري وحده، و إنما من وصفه "الذاتي" أيضاً وحقه بالوجود.
فالآخر ليس ذاتاً، وإنما هو موضوع مجرّد يحمل نقيض الذات الشرعية الوحيدة المعرّفة كإنسان مكرم، أي ذات الجماعة، و هذا ما يسقط عنه حقوقه، إذ ما دام الآخر مجرد موضوع لنا لا بتصنيفه الفكري (السياسي، الديني، القومي... الخ) فقط وإنما هو موضوعنا حتى بكينونته ووجوده، فلا مرجع للحكم على شرعية ما يجري عليه من إقصاء أو اعتقال أو قتل خارج إرادتنا وحدها.
هذه "الإثنينية" حاضرة في التصور البشري وفي الديانات القديمة، وهي من طبائع القيم نفسها بما هي مثل قصوى ونظرية، (والقول اليوناني إن الفضيلة وسط بين رذيلتين تطور حقيقي في الفهم المركب للأخلاق لكنه لم يتحرر من إثنينيتها فهي من طبيعة القيم الكلية).
لعل الخلل ليس في التصور الإثنيني حين يكون في حدود الكليات النظرية، وإنما حين يُراد له ان يتحكّم في الجزئيّات البشريّة المتعيّنة، حينها تتحول الجماعة إلى تمثل تام للفكرة، تجسد حلولي للإله، وكلّ نقص عن هذا التمثّل هو نقيض بالضرورة وعدوّ بالضرورة، فلا مساحة في هذا التصور لغير أنا تامة ناجزة متوحدة مع فكرتها، ومع آخر خائن للحقيقة وعدوّ لها (عميل، مرتد، إرهابي...الخ).
هذا ما يجعل من أي جماعة متطرفة معادية للواقع بالضرورة، حتى وإن تمكنت من التحكم فيه جزئيّاً، فالواقع متفلت دوماً وفوضوي، كما هو الإنسان الذي يحضر في التاريخ كتجربة حيّة لا كنموذج ناجز ومعلّب، وهذا ما يجعل من أي تنظيم معادٍ للتاريخ معادياً للإنسان نفسه بالضرورة.
لم يكفّ الإنسان عن استنساخ هذه "الإثنينية" المتطرفة في ملابس أيديولوجيات مختلفة، علمانية سلطويّة أكثر مما هي دينية، هذا ينطبق على الصهيونية وعلى النازية وعلى مسيحية حروب الاستباحة ومحاكم التفتيش وعلى إمبريالية التنوير وعلى المجازر الطائفية وعلى خطاب المحافظين الجدد، أو ما ندعوه بخطاب الإرهاب، وينطبق بطبيعة الحال على بعض الجماعات الإسلامية الجهاديّة كذلك، أي أن هذا الخطاب في جوهره الباطن متشابه مع أي خطاب آخر معادٍ له في الظاهر.
يشير الفيلسوف طه عبدالرحمن في كتابه "الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري" في نقده لخطاب المحافظين الجدد حول الحرب على الإرهاب، إلى أن جذور هذا الخطاب هي "مانويّة"، مشيراً إلى الديانة الفارسيّة التي تقول بثنائية الخير والشر.
وهذه ملاحظة ذكية وسديدة، وإن كنت أرى أنّه بالنسبة لخطاب المحافظين الجدد، أي في الحيز الغربي، فإن جذور هذا الخطاب أكثر تعلّقاً بالخطاب الفلسفي والسياسي اليوناني، والذي كان يعتبر - ولعلّ أشهر من كان خطابه على هذا هو أرسطو - أنه ثمة عالمان: عالم اليونان "الرجال"، ويتعلق به الكلام عن الدول والمدن الفاضلة والحقوق السياسية، وعالم البرابرة المستباح.
ويشير ديفيد جونسون، مؤلّف كتاب "مختصر تاريخ العدالة"، إلى أن أول من تكلم عن تساوي البشر وإلى أن هناك صفة "إنسانية" تجمعهم، كانوا الفلاسفة الرواقيين، وأشاروا لها كفكرة لا كمرتكز لفلسفتهم بطبيعة الحال، وهذه الفكرة لم تأخذ مداها وانتشارها إلا مع المسيحية ثمّ مع الإسلام.
أي أن ما نعتبره الآن بداهة ومن الجريمة إنكارها، فيما يتعلق بأن هناك حقوقاً للإنسان بما هو إنسان، وأنّه "كلّكم لآدم وآدم من تراب"، هي فكرة حديثة نسبيّاً في تاريخ البشرية.
معظم مسلمات كل عصر هي نتيجة سيرورة طويلة من الاكتشاف والبناء والتحولات، هذا في حيز التقنية أوضح مما هو في حيز الفكر، ولكن الفكر ليس بريئاً من ذلك بطبيعة الحال.
في الواقع السوري اليوم (كتب هذا النص في 7 يوليو/ تموز 2014م)، نشهد تمظهرات مختلفة لهذه "الإثنينية" تتصارع فيما بينها، ما بين خطاب الممانعة الإيراني وخطاب الإرهاب الأميركي وخطاب تنظيم الدولة (داعش) الذي تجاوز خطاب القاعدة القديم بمراحل.
ولكن الجسد الأكبر من الحراك الثوري العظيم، سواءٌ كان من التيارات الإسلامية الأيديولوجية، أو ممن لم يبلغوا مرحلة الأيديولوجيا وينتمون للتديّن المجتمعي، ما زالوا داخل التاريخ وقادرين بذلك على التأثير فيه بناءً لا تدميراً فقط، وقادرين على مواجهة الخطاب المعادي للتاريخ والمجتمع - أياً كان مصدره - بوعيٍ يتحرك في التاريخ والمجتمع نفسه.
ولعلّ أخطر المسكوت عنه، في ظهور هذه الجماعات المعادية للتاريخ وتسيّدها، هو أنّها تجعل من التخلّي عن العقلانيات والبداهات حقّا طبيعياً، بل حتى واجباً على من يدخلون في منظومتها وعلى من سيخضعون لها بالضروة، لا أنه جريمة كما ينبغي أن تكون.
3-
أردت أن أسأل في نهاية المقال(ين)، تبعاً لسؤال الفيلم الأول: هل نحن محصنون ضد الديكتاتورية أو الفاشية أو التكفيرية أو (... إلخ)، ولكن الواقع الذي أنتجته الثورات المضادة في مجتمعاتنا ضمن حربها المستميتة على الربيع العربي وهو نقطة الضوء الوحيد في تاريخ العربي المنكوب، جعل هذه الأسئلة من الماضي: لقد اخترقَنا كل شيء!
(سورية)