28 يناير 2024
مواطنٌ دون قبره
في علم "التطبيش" و"التطفيش"، يجوز للأنظمة العربية ما لا يجوز لغيرها، كما يحق لها أن تعبث باللغة، كما تعبث بالمصائر والأجساد، من دون حسيب أو رقيب. وعلى أرباب اللغة والضالعين بـ"الضاد" أن يعتمدوا المصطلح الجديد، كما يردهم من "فوق"، حتى لو خالف حصيلتهم اللغوية كلها، أما المصطلح اللغوي المقصود هنا فهو كلمة "البدون".
عموماً، لا أدري إذا كان مجمع اللغة العربية في القاهرة قد اعتمد "البدون" بوصفه مصطلحاً تحديثياً جديداً في اللغة العربية الآيلة للانقراض. لكن، يحسب للأنظمة العربية أنها باتت أزيد مرونةً في تحديث اللغة، بما يتلاءم وخيبة العصر العربي الراهن.
شخصياً، واستناداً إلى ثروتي اللغوية المتواضعة، حذرني أستاذي أبو خلدون، في الصف السادس الابتدائي، من إضافة أي حرف زائد على "دون"، وقال لي إن هذه الكلمة تأتي مفردة دائماً. على هذا الأساس، صدمني ظهور مصطلح "البدون" الذي بزغ أول الأمر في الكويت، ليصف قطاعاً شعبياً من فئة المعدومي الجنسية، وسرعان ما انتشر المصطلح وطغا، وأصبح تداوله يتخذ طابعاً رسمياً وإعلامياً وشعبياً في الوثائق والصحف والقنوات التلفزيونية العربية، حدّ أنني رحت أتشكك، بدايةً، في صحة المعلومة التي ورّثني إياها أستاذي أبو خلدون، فقرّرت العودة إليه مستجيراً بناره من رمضائهم، وكم كانت صدمتي بالغة، حين رأيته يدخل في نوبة ضحك هستيرية، ثم يقول: "يا بني، هذه المعلومة صحيحة، ما دمت على مقاعد الدراسة، لكنها تصبح مغلوطة على مقاعد الأنظمة العربية"، ثم استأنف ضحكه الهستيري، من دون أن يترك لي أدنى فرجة للتعليق بين ضحكة وأخرى.
تركت أبو خلدون مستغرقاً في ضحكه، وغادرته منتشياً، لأنني وصلت إلى قناعةٍ لا تقبل الطعن بأن لا مصطلح غير "البدون" قادر على توصيف "عديمي المواطنة" في العالم العربي، حتى إنه يخيل إليّ أن هذا المصطلح، تحديداً، هو الأقرب إلى ألسنة القادة العرب، كونه "يشيّئ" شعوبهم، وينتزعهم من كينونتهم. ولذا، هو يستهوي دوائر القرار في العالم العربي، وما أسهل أن يلصق بأي "شيء" غير مرغوب فيه، سواء كان "الشيء" مواطناً أو غيره.
ومن "البدون"، تأتي "الدونية" لتستقر عميقاً في عقدة الشخصية العربية، ترسخها منظومة مدروسة من التهميشات والإقصاءات والمحظورات، تتوارثها الأجيال، لتصبح جزءاً من التركيبة الجينية للمواطن العربي، فيصل إلى قناعة مفادها بأن "الدون" هو الأصل، وما فوقه ليس أكثر من "كماليات"، بما فيها الحقوق الأساسية نفسها.
ولئن كانت فئة "البدون" في الكويت ما تزال على قناعة بأنها وحدها من تعاني عقدة النقص في المواطنة والحقوق والهوية، فعليها أن تلتفت قليلاً إلى بلادٍ حولها، ومنها الأردن التي وصل إليها "الفيروس"، فارتأى المسؤولون فيها أن "البدون" تصلح للسحب على أبناء الأردنيات المتزوجات من "أجانب"، علماً أن معظم هؤلاء "الأجانب" رعايا عرب، ثم تحت وطأة مظاهرات واعتصامات هؤلاء الأمهات اللواتي اقترفن جريمة "الوحدة العربية" قبل نضوجها، بزواجهن من عربٍ آخرين، قرّرت الحكومة أن تمنح أبناءهم "بطاقة تعريفية"، تتيح لهم "صرف الشيكات". لكن، على أرض الواقع، رفضت البنوك الاعتراف بهذه البطاقات، فعاودت الأمهات التلويح باستئناف المظاهرات.
وعلى غرار الكويت والأردن، أراهن أن هناك قطاعات شعبية واسعة في جميع الأقطار العربية تواجه "الدونية" نفسها، تحت ذرائع وحجج شتى، مع التذكير بأن للدونية مراتب ومقامات، غير أن "الرعايا" العرب في أوطانهم جميعاً يتقاسمون حدّها الأعلى. ولذا، لا ينبغي أن يشمت "دونيّ" بـ"دونيّ".
هكذا تستقيم "البدون" في عالم عربي، مواطنه دون مواطنته، وجنسيته دون دولته، وقامته دون أنظمته، وكينونته دون هويته، ومعاملاته دون مؤسساته، وحقوقه دون قدميه،... وحياته دون قبره.
عموماً، لا أدري إذا كان مجمع اللغة العربية في القاهرة قد اعتمد "البدون" بوصفه مصطلحاً تحديثياً جديداً في اللغة العربية الآيلة للانقراض. لكن، يحسب للأنظمة العربية أنها باتت أزيد مرونةً في تحديث اللغة، بما يتلاءم وخيبة العصر العربي الراهن.
شخصياً، واستناداً إلى ثروتي اللغوية المتواضعة، حذرني أستاذي أبو خلدون، في الصف السادس الابتدائي، من إضافة أي حرف زائد على "دون"، وقال لي إن هذه الكلمة تأتي مفردة دائماً. على هذا الأساس، صدمني ظهور مصطلح "البدون" الذي بزغ أول الأمر في الكويت، ليصف قطاعاً شعبياً من فئة المعدومي الجنسية، وسرعان ما انتشر المصطلح وطغا، وأصبح تداوله يتخذ طابعاً رسمياً وإعلامياً وشعبياً في الوثائق والصحف والقنوات التلفزيونية العربية، حدّ أنني رحت أتشكك، بدايةً، في صحة المعلومة التي ورّثني إياها أستاذي أبو خلدون، فقرّرت العودة إليه مستجيراً بناره من رمضائهم، وكم كانت صدمتي بالغة، حين رأيته يدخل في نوبة ضحك هستيرية، ثم يقول: "يا بني، هذه المعلومة صحيحة، ما دمت على مقاعد الدراسة، لكنها تصبح مغلوطة على مقاعد الأنظمة العربية"، ثم استأنف ضحكه الهستيري، من دون أن يترك لي أدنى فرجة للتعليق بين ضحكة وأخرى.
تركت أبو خلدون مستغرقاً في ضحكه، وغادرته منتشياً، لأنني وصلت إلى قناعةٍ لا تقبل الطعن بأن لا مصطلح غير "البدون" قادر على توصيف "عديمي المواطنة" في العالم العربي، حتى إنه يخيل إليّ أن هذا المصطلح، تحديداً، هو الأقرب إلى ألسنة القادة العرب، كونه "يشيّئ" شعوبهم، وينتزعهم من كينونتهم. ولذا، هو يستهوي دوائر القرار في العالم العربي، وما أسهل أن يلصق بأي "شيء" غير مرغوب فيه، سواء كان "الشيء" مواطناً أو غيره.
ومن "البدون"، تأتي "الدونية" لتستقر عميقاً في عقدة الشخصية العربية، ترسخها منظومة مدروسة من التهميشات والإقصاءات والمحظورات، تتوارثها الأجيال، لتصبح جزءاً من التركيبة الجينية للمواطن العربي، فيصل إلى قناعة مفادها بأن "الدون" هو الأصل، وما فوقه ليس أكثر من "كماليات"، بما فيها الحقوق الأساسية نفسها.
ولئن كانت فئة "البدون" في الكويت ما تزال على قناعة بأنها وحدها من تعاني عقدة النقص في المواطنة والحقوق والهوية، فعليها أن تلتفت قليلاً إلى بلادٍ حولها، ومنها الأردن التي وصل إليها "الفيروس"، فارتأى المسؤولون فيها أن "البدون" تصلح للسحب على أبناء الأردنيات المتزوجات من "أجانب"، علماً أن معظم هؤلاء "الأجانب" رعايا عرب، ثم تحت وطأة مظاهرات واعتصامات هؤلاء الأمهات اللواتي اقترفن جريمة "الوحدة العربية" قبل نضوجها، بزواجهن من عربٍ آخرين، قرّرت الحكومة أن تمنح أبناءهم "بطاقة تعريفية"، تتيح لهم "صرف الشيكات". لكن، على أرض الواقع، رفضت البنوك الاعتراف بهذه البطاقات، فعاودت الأمهات التلويح باستئناف المظاهرات.
وعلى غرار الكويت والأردن، أراهن أن هناك قطاعات شعبية واسعة في جميع الأقطار العربية تواجه "الدونية" نفسها، تحت ذرائع وحجج شتى، مع التذكير بأن للدونية مراتب ومقامات، غير أن "الرعايا" العرب في أوطانهم جميعاً يتقاسمون حدّها الأعلى. ولذا، لا ينبغي أن يشمت "دونيّ" بـ"دونيّ".
هكذا تستقيم "البدون" في عالم عربي، مواطنه دون مواطنته، وجنسيته دون دولته، وقامته دون أنظمته، وكينونته دون هويته، ومعاملاته دون مؤسساته، وحقوقه دون قدميه،... وحياته دون قبره.