كثيرةٌ هي المهن والحرف التي باتت مهدّدة بالزوال في المغرب. الأسباب في غالبيتها اجتماعية واقتصادية، عدا عن هيمنة التكنولوجيا على عصرنا الحالي، في وقت يعاني العاملون في هذه المهن من بطالة مقنعة، ما دفع بعضهم إلى تغييرها. وليس مبالغاً القول، إن هذه المهن باتت شبه منقرضة، حتى أنه يصعب العثور على الأشخاص الذين اعتادوا ممارستها. من هذه المهن الساعاتي والإسكافي والفران التقليدي و"النفار" واللباد والسراج والخراط وغيرها. وتُبدي بعض الجهات المعنية قلقها من احتمال انقراض هذه المهن أو الحرف، وخصوصاً أن أصحابها إما يتحولون إلى عاطلين عن العمل، أو يعملون في مهن غير شرعية.
وتشهد مهنة الساعاتي (إصلاح الساعات) تراجعاً ملحوظاً في المجتمع المغربي. ونادراً ما يجد المرء محلاً لإصلاح الساعات، بخلاف ما كان عليه الأمر في سنوات خلت، عندما كانت المهنة منتشرة ورائجة وتحظى بإقبال المغاربة. يقول الجيلالي المكاني، وهو ساعاتي سابق، لـ "العربي الجديد"، إنه "بسبب تراجع إقبال الزبائن على محلّه، لم يعد قادراً على إعالة أسرته، ما دفعه إلى إغلاق محله في أحد الأحياء الشعبية في العاصمة الرباط، بعدما أصبح عاجزاً عن تأمين بدل إيجار المحل".
يضيف المكاني أن هذه المهنة تُعلّم صاحبها الصبر، وخصوصاً أنها تتطلب كثيراً من التأني لإصلاح عطبٍ صغير، بالإضافة إلى الدقة والأمانة. من جهة أخرى، يوضح أن ضعف إقبال الزبائن على هذه المهنة يعود إلى انتشار الأجهزة الإلكترونية الحديثة. يشرح إن "السوق باتت مليئة بالساعات الإلكترونية التي حلت محل تلك اليدوية، أو ساعات الحائط. وعدم إقبال الناس على شرائها يعني عدم مجيئهم إليّ لإصلاحها". كذلك، يلجأ كثيرون إلى معرفة الوقت من خلال الهواتف المحمولة أو الكومبيوتر وغيره من الأجهزة الإلكترونية.
احتمال انقراض مهنة الساعاتي في المجتمع المغربي لا يعني أن جميع الساعاتيين استسلموا لواقعهم الجديد. على العكس، أصر البعض على الحفاظ على مهنتهم هذه، منهم فؤاد زغاري المقيم في فرنسا، الذي تمكن من اختراع ساعات خاصة، يوزعها على محال الساعاتيين في فرنسا وسويسرا.
مع الوقت، قد يفقد المغرب مهنة الإسكافي أو "الخراز". لم يعد ملجأً للناس بسبب الآلات التي حلت محله. يوماً بعد يوم، تقل محال الإسكافيين بشكل ملحوظ، بسبب تراجع إقبال الزبائن عليهم. في هذا السياق، يقول الإسكافي السابق، محمد صباري، إن قلة دخل مهنته دفعته إلى تركها. صار يفضّل المكوث في البيت بعدما مرض وتقدم في السن. لم يجد سبباً لمزيد من العناء من دون الحصول على النتائج المرجوة. يقول لـ "العربي الجديد" إن "مهنة الإسكافي تعلم ممارسها معنى الشرف، لكنها لا تغني أو تقي الجوع"، لافتاً إلى أنها بالكاد تسد رمق الفقير.
يشكو صباري من وضع هذه المهنة في البلاد. يقول: "معاناتنا كبيرة بسبب إهمال المسؤولين للمهن التقليدية في المغرب، فضلاً عن انخفاض أسعار الأحذية المستوردة من الصين. بالتالي، لم يعد المواطنون يهتمون بإصلاح الأحذية، علماً أنه يمكنهم اقتناء أحذية جديدة بأسعار رخيصة".
أما مهنة "الطراح" (الخبز في الأفران التقليدية)، فليست بدورها في أفضل حال. فقد شهدت تراجعاً كبيراً بعدما حلت الأفران المنزلية العصرية محل تلك التقليدية الموجودة في الأحياء، وباتت الأسر تفضل الخبز المصنوع في المنزل. هذا الوضع الجديد أدى إلى تضرر "الطراح"، الذي تنحصر مهنته في إعداد صينيات الخبز. يتكل هؤلاء، اليوم، على العائلات التي ما زالت تقصد الأفران التقليدية، بسبب عدم امتلاكها الأفران المنزلية.
لا ينحصر الأمر في المهن المذكورة سلفاً. ما زال هناك كثير من المهن المهددة، منها خراطة الخشب، وصناعة سروج الخيول، واللبادة(تشبيك الصوف ليتحول إلى قطعة واحدة). جميعها تراجعت في ظل هيمنة المكننة على المجتمع المغربي، لتتحول إلى مجرد حرف تقليدية قد تندثر قريباً. أمر دفع الحكومة إلى إطلاق خطط بهدف إنقاذ هذه المهن، من خلال تمويلها وتطويرها ببرامج الدعم والتكوين.
وتجدر الإشارة إلى أن مدينة فاس التاريخية التي لطالما اشتهرت بمهنة اللبادة، تشهد بدورها تراجعاً في الإقبال عليها، على غرار مهنة صناعة السروج التقليدية، التي تعود إلى ثلاثة قرون خلت، والتي عرفت ازدهاراً في القدم في ظل إقبال الناس على تجهيز الخيول بسروج تقليدية بهدف الزينة.