كثيراً ما تُنتقد الأغنية حين تتحوّل إلى أداة بين يدي السلطة، غير أن من اتخذوا الأغنية وسيلة لمقاومة السلطة ظلوا عموماً يستعملونها هم أيضاً كأداة. لعل تيار ما عرف بـ "الأغنية الملتزمة" أو البديلة يمثل أبرز نماذج هذه المقاومة للسلطة عن طريق الأغنية، ضمن تيارات اليسار غالباً. أغنية عاشت وتعيش على وقع أزمات، ربّما يكون تجاوز هذه النظرة الأداتية المَخرج الذي طالما بحثت عنه.
"مهرجان حمادي العجيمي للأغنية البديلة" في دورته الرابعة التي احتضنتها "دار الثقافة ابن رشيق" في العاصمة التونسية من 11 إلى 13 حزيران/ يونيو، أتاح هذا العام، إضافة إلى العروض الموسيقية، فرصة طرح أسئلة هذا النمط الغنائي انطلاقاً من كون هذه الدورة توافق 20 سنة على رحيل كل من حمادي العجيمي والشيخ إمام.
أمّنت العرض الأول من المهرجان مجموعة "خط" (إلقاء: حمدي مجدوب وغناء: سعاد مقديش) عبر صبّ ألحان للشيخ إمام وآخرين في كلمات ورؤى جديدة. تجربة لاقت استحسان الجمهور الحاضر بكثافة. في السهرة نفسها، صعدت المغنية الشابة ياسمين طرابلسي ثم فرقة "عيون الكلام" (خميّس البحري وآمال الحمروني).
في صبيحة اليوم الثاني، أُقيمت ندوة بعنوان "الشيخ إمام.. حمادي العجيمي.. 20 سنة وبعد؟". ندوة جمعت على طاولة النقاش عدداً من وجوه هذا النمط الفني ومُتابعيه. مدير الفضاء الذي احتضن الندوة العروض، شكري لطيف، استهل النقاش بحديث عن الأغنية البديلة ومستقبلها.
وجاء في مداخلة الإذاعي حبيب بلعيد أن "الأغنية الملتزمة لا ينبغي أن يقتصر دورها على النضال، وهذا هو المأزق الذي وجدت نفسها فيه لدى كل متغيّر سياسي". يعتبر بلعيد أن "مساحة تحرّك الأغنية البديلة ينبغي لها أن تتسع نحو مظاهر أخرى من الحياة". ويشير إلى مشكلة أخرى هي أنها "ظلت في شكل مبادرات فردية".
هنا يرى، أحد المبادرين بهذه الندوة، خميس البحري، أنه لا بدّ من الدخول في خطوات عملية وافتكاك مواقع في الساحة الفنية. دعا البحري زملاءه إلى "تأسيس جمعية تسهر على تنظيم مهرجان سنوي كبير للأغنية الملتزمة عوض هذه المهرجانات الصغيرة التي تتكاثر في تونس". ويقول "غريب أن ننتبه في الذكرى 20 إلى أننا لم نتقدم خطوة، وأننا فقط نقوم في كل سنة بإضافة ذكرى جديدة".
يرى البحري أن "هذا العدد الكبير من المهرجانات قد خلق مشكلاً في البرمجة، علاوة على ضعف إمكانيات كل مهرجان وعدم قدرته على تشريك الأسماء بمعايير موضوعية وهو ما يخلق حزازيات بين الفنانين".
شارك في هذا النقاش أيضاً ضيف المهرجان، المصري السيد مهدي عنبه، باعتباره مؤسس "جمعية محبي الشيخ إمام" في مصر. ومن خلال تجربته هذه، أكد استمرار التضييق على هذا الفن الذي يفضّل أن يسميه بـ "الفن التنويري".
من جهته، دعا خالد الحمروني هو الآخر إلى التفكير في هياكل تحمي تراث الأغنية البديلة في تونس، والذي يتجاوز عمره الأربعة عقود. لكن الحمروني يجادل هنا البحري حول دور الدولة في هذا الإطار، إذ يرى "أن تشريك الدولة ضروري، وكذلك التعاون مع مختصين للأرشفة والتوثيق والتخطيط".
أما المغنية آمال الحمروني، فقد أكدت في كلمتها أنه "لا بدّ من تحيّة الجيل الجديد الذي يحمل مشعل الأغنية البديلة"، ونوّهت بالخصوص إلى تمكنهم من قواعد الفن الموسيقي الذي كان ينقص تجارب جيلها. تعتبر الحمروني الأسماء الجديدة قاعدة لانطلاق الأغنية البديلة وتوصي بالتعامل معهم من داخل تجاربهم الخاصة، مطالبة الجيل القديم بحمايتهم من الأبوية، مشيرة إلى هشاشة استمرار المجموعات الموسيقية.
إثر نهاية الندوة، كان لـ "العربي الجديد" لقاءات مع بعض المشاركين، خصوصاً ضمن هذه الجدلية بين أجيال الأغنية البديلة. يقول السيد عنبه مجيباً عن السؤال الرئيس للندوة "لا أخاف على مستقبل الأغنية التنويرية، ففي كل حفلات المهرجان كانت الغلبة للشباب، وهؤلاء قد استوعبوا تجربة الشيخ إمام كحالة فنية وهو أمر محمود".
سألناه عما يبرّر هذا التفاؤل بالجيل الجديد ومعظمهم يؤثث أكثر من نصف عروضهم بأغان للشيخ إمام، فيجيب: "أجد أنهم يمزجون بين رؤاهم وأغاني الشيخ إمام وهذه إضافة مهمة. وهنا أقول إن الشيخ إمام سيكون حاضراً في المستقبل أكثر من الماضي".
وكأن انتظار جيل يحمل مشعل الأغنية البديلة يجعل كل محاولة جديدة في إطار هذ النوع الفني تبدو مستحسنة. توجّهنا بالسؤال إلى خالد الحمروني، وهو صاحب تجارب في كتابة كلمات الأغاني الملتزمة وتلحينها ضمن مجموعة "البحث الموسيقي" التي نشطت في الثمانينيات، كما أنه يعتبر أحد أبرز مؤطري الجيل الصاعد.
يقول الحمروني لـ "العربي الجديد": "أدعو دائماً إلى القطع مع التشخيص الأبوي والنظر إلى المستقبل عبر الموسيقيين الذين يظهرون اليوم. ما يلفتني فيهم هو علاقتهم الجيدة بآلاتهم وبالتقنيات، وهو عنصر لم يتوفر في تجاربنا رغم أننا صعدنا في مناخ احتفل بتجاربنا". لكن الحمروني يؤكد أن "هؤلاء الشباب ينبغي أن يستفيدوا من الخلل في تجارب من هم قبلهم والاشتغال على تجاوزها. سيكون خطأ كبيراً لو أنهم اعتمدوا على التقنية من دون جمل موسيقية قوية والقدرة على تفجير الألحان إلى نهايتها".
في أمسية الجمعة، احتضن مسرح ابن رشيق حفلاً ثانياً أقامته كل من بديعة بوحريزي ثم فرقة "غسيل دماغ" الفلسطينية-التونسية قبل أن يصعد إلى الخشبة الفنان لزهر الضاوي، أحد أبرز وجوه الأغنية الملتزمة في السبعينيات. وفي الحفل الأخير، يوم السبت، غنّى كل من مراد جاد ولبنى نعمان ونادي أحباء الشيخ إمام- تونس، لتنال شرف اختتام المهرجان فرقة "البحث الموسيقي" قابس.