على عكس ما كان مُتوقّعًا فإنّ فيلم افتتاح المهرجان، في دورته 71 التي انطلقت الأربعاء الماضي، وتستمرّ حتى الأحد 7 سبتمبر/أيلول المقبل، فإنّ فيلم "بيردمان" للمكسيكي أليخاندرو غونزالس إيناريتو، المقيم في الولايات المتحدة الأميركية، حقّق المفاجأة، بأن نال الإعجاب المطلوب، فدخل السباق على "الأسد الذهبي"، وهي الجائزة التي تنشدها الأفلام العشرون المشاركة ضمن المسابقة الرسمية.
أليخاندرو أبدع في تصوير حياة ممثّل في مرحلة الانحدار، أدّى دوره مايكل كيتون، ويريد العودة إلى ما سبق أن لاقاه من شهرة، من دون أن يُوفَّق، بل على العكس. وقد سعى مهرجان "كان" في دورته الأخيرة إلى الحصول على هذا الفيلم، لكنّ عدم إنجازه بسبب صعوبات اعترضته أثناء التصوير، جعله هدية جميلة لمهرجان البندقية.
الشريط ينجح في استعادة أسطورة التسعينيّات التي تجسّدت في شريط "باتمان"، لتيم بورتون وقبلها في المجلات المصوّرة للصغار، "الرجل الوطواط". وأُنجِزَ بمشاركة نجوم مثل نوومي واتس، وإيما ستون، وإدوارد نورتون وآخرين. وإذا كان إيناريتو يحظى بقبول وإعجاب واسعين في المهرجانات كما في شبّاك التذاكر، فهو نجح إلى حدٍّ كبير في هذا العمل.
"كيف وصلنا إلى هنا؟"، يتساءل البطل في مشهد مناجاة افتتاحي، لكن وإن كان من ضمن سيرة هذا الرجل أن ينقذ البشر، فإنّ المخرج المكسيكي إيناريتو، ومنذ فيلمه الطويل الأوّل، لم يتوقّف عن إظهار أنّ الإنسانية لا تستحقّ حتّى أن يتم إنقاذها، وهي المهمة التي يطّلع بها "بيردمان".
لجنة التحكيم في البندقية ترأسها هذا العام، وللمرّة الأولى في تاريخ المهرجان الذي انطلق عام 1924، مؤلّف موسيقي هو الفرنسي ألكسندر ديبلا، الذي وضع موسيقى تصويرية لعدد من الأفلام المشهورة. أما نصيب المشاركة الفرنسية في المسابقة الرسمية فبلغ أربعة أفلام، ما يدلّ على صحّة هذه السينما الأوروبية التي تُعتَبَر من بين الأنشط والأغزر إنتاجا على صعيد القارّة.
أحد أبرز الأفلام الفرنسية الأربعة المشاركة في المسابقة هو "ثمن المجد" للمخرج كزافييه بوفوا الذي يستعيد قصّة حصلت فعلا في سويسرا عند وفاة شارلي شابلن "الملك"، حين سُرِقَ تابوته وطلب اللصوص فدية من عائلته. ويؤدي ابن شارلي شابلن دورا في فيلم بدا معقولا في البندقية. وذلك بعد العمل الأخير لبوفوا الذي نال جائزة في "كان" قبل عامين عن فيلم أنجزه حول المرحلة الأخيرة من حياة رهبان قُتِلُوا في الجزائر أثناء عملية غامضة خلال "العشرية السوداء في التسعينيّات".
في الفيلم الجديد تؤدّي المخرجة والممثلة اللبنانية نادين لبكي دور زوجة أحد اللصوص، في دور صغير اختاره لها المخرج. وبسبب حاجتها إلى عملية جراحية عاجلة وعدم امتلاك اللصّ تأمينًا صحيًّا، يُشارك في العملية لإنقاذ زوجته.
نادين لبكي قالت إنّها ليست ممثّلة محترفة، لكنّها تحبّ "دائما خوض مغامرة التمثيل كي لا أدخل في روتين عمل المخرج، وكي أجرّب عددًا من الأدوار والشخصيات الأخرى، وهو أمر متاح أمام الممثّل".
خارج الأفلام، فإنّ شارلي شابلن لا يظهر في التابوت فقط بالبندقية بل إنّ المهرجان يستعيد ماضي المهرجان في صور تُعرَض قبل كلّ فيلم، ومن بينها مقاطع لحضور شابلن إلى البندقية العام 1931، وحينها لم يمشِ على الأرض بل حُمِلَ على الأكتاف.
المسابقة الرسمية تتضمّن الكثير من الأفلام التي تتناول أزمات العالم وحروبه التي لا تنتهي، فضلا عن الأزمات والمآزق الاقتصادية، من بين أبرزها فيلم وثائقيّ لمخرج أميركي يعيش في كوبنهاغن وصوّر فيلمه في إندونيسيا. تدور أحداثه في العام 1965، "سنة الموت، سنة القتل الجماعي، والصمت". ففي هذا العام عمدت السلطات والجيش إلى تصفية مليون شيوعي داخل أكبر بلد مسلم في العالم. ومخرجه جوشوا أوبينهايمر الذي سبق وأنجز فيلم "فعل القتل"عن الموضوع نفسه.
أوبينهايمر في عمله السابق أعطى حقّ الكلام للقتلة، فلم يتكلّموا ويستعيدوا ما قاموا به وحسب بل مثّلوا ما فعلوه وبتفصيل غريب ومقزّز أمام عدسات المخرج، الذي صمد أمام الاعترافات وأتقن صياغتها في العمل.
وقتها أثار خروج الفيلم الكثيرين ضدّ المخرّج، لأنّه منح حقّ الكلام للقتلة وليس للضحايا، ومن ناحية أخرى بسبب كشفه هذه الصفحة المسكوت عنها في التاريخ الإندونيسي الحديث، خصوصًا بعد أن تحوّل منفّذو هذه العمليات إلى زعماء سياسيين في إندونيسيا اليوم.
أما هذه المرة، فإنّ أوبينهيمر يعود من خلال "شكل الصمت The look of silent" إلى هذا البلد ليعطي الكلام فعلا لإحدى العائلات التي قُتِلَ ولدُها في قرية نائية، هو الأخ الذي يعمل في مجال تصحيح الرؤية والنظّارات بمناطق نائية من أندونيسيا. وعلى ما يبدو فإنّ نهاية المشروع لم تُكتَب بعد، وربما نشهد فيلما ثالثا ضمن السلسلة نفسها.
وفي الفيلم يعرض المخرج على هذا الأخّ فيلمه الأول وحديث القتلة عن القاتلين، ليذهب بصحبته في النهاية إلى بيوت من قاموا بقتل أخيه حيث تكون المواجهة.
لكنّ اللافت الأبرز في الفيلم بقاء الأخ المصمم على المواجهة بكرامة، ليردّ اعتباره لذاته الإنسانية قبل أن يكون لأخيه، هادئا ورابط الجأش رغم كلّ شيء، بينما بلده يتشابه وبلدان كثيرة في العالم، حيث يبقى مرتكبو الجرائم بعيدين عن أيّ ملاحقة.
فيلم وثائقي فريد في طريقة خوضه بحر العنف الذي يخترق الإنسانية دون توقّف محوّلا الوجود في كثير من الأحيان إلى كابوس طويل للكثير من أبناء البشر.
وفي مكان بعيد جدا عن هذا الواقع تابع النمساوي أورليش سيدل، في فيلمه الجديد "أنا كيللر"، سيرته المشاغبة التي بدأها في "دوغ ديز" وواصلها في ثلاثيّته عن الحبّ. وثائقيّ مبدع أقرب إلى المسرحي وبتصرّف، ملخّصه سؤال: كيف يقضى النمساوي وقت فراغه؟ وما الذي يصنعه الناس في أوقاتهم الخاصة داخل المجتمع النمساوي؟
يحرص سيدل على تصوير المخفي في المجتمع النمساوي وفي الذات النمساوية، أي ما هو متوارٍ في النفوس كما في أقبية المنازل التي تتحوّل إلى أمكنة لممارسة الهوايات الحميمة جدًا.
تلك التي يُعيدُ المخرج طرحها بلهجة سينمائية ساخرة لا تخلو من برودة. تماما كما الإطارات الثابتة والأمكنة المحدودة التي استخدمها المخرج طوال لقطات الفيلم.
النقطة المهمّة في هذا العمل هي نجاح المخرج المستفزّ في بنائه خيطا رفيعا يربط بين الألعاب الجنسية السادية – المازوشية وبين طقوس الاحتفاء بهتلر التي يقوم بها نمساويون نجح المخرج في تصويرهم أثناء انغماسهم في تلك الممارسات إلى درجة تجعل المشاهد يعتقد بأنّه أمام فيلم خياليّ.
أورليش سيدل كان صوّر في ثلاثيته "جنّات"، التي عرض أجزاءها الثلاثة على التوالي في مهرجانات "كان" و"البندقية" و"برلين"، الحياة الجنسية لسيّدات متقدّمات في السنّ ويعشنَ مرحلة من البؤس الجنسي، لكنهنّ يسعينَ جاهدات إلى تجاوزها دون كبير نجاح.
أما الممثّل الهوليوودي النجم آل باتشينو، الذي اعتاد سنويا، تقريبًا، على التواجد في "البندقية"، حيث تكرّم في عام 1994 بمنحه جائزة "الأسد الذهبي" عن مجموع أعماله، فيشارك هذا العام بعملين، أحدهما من إخراج باري ليفنسون: "صباح الخير فيتنام".
وفيه يؤدي آل باتشينو دور ممثّل مشهور يتراجع عن اعتكافه وانهياره النفسي ويقرّر، بسبب حاجته الماديّة، العودة إلى المسرح للعب دور في "برودواي". الفيلم يمزج بين المزاح والكوميديا والدراما والهزل دون أن ينجح كثيرا في الإقناع. وهو في كلّ الأحوال خارج المسابقة.
آل باتشينو مخيّب للغاية في هذا الفيلم المبني على تقاطعات مستمرّة بين الماضي والحاضر، الذاكرة والراهن، الواقع والخيال، لرجل ضائع بعد سنين الشهرة، لكنّ الفيلم لا ينجح في الوصول إلى المرجو منه.
السينما الإيرانية التي بات عدد من مخرجيها الكبار يعملون خارج بلدهم، حاضرة دائما في "البندقية" كما في مهرجانات العالم الكبرى. وتشارك بعدد من الأفلام بينها "الرئيس" الذي يسجّل عودة المخرج محسن مخملباف الذي لم يوفّق في إظهار صورة معادِلَة فنيًّا للديكتاتور، كما رغب أن يفعل مستلهمًا الثورات العربية.
فيلمه جاء مبسّطًا، ولم تنجح في إنقاذ الفيلم مشاهد جميلة في بيئة محيطة، ولا العلاقة التي بناها بين الجدّ والحفيد الذي يرمز إلى ضمير ذلك الرجل الذي رحل. فالعلاقة بين الطرفين كانت جميل، وكذلك أداؤهما التمثيلي باللغة الجورجية التي صُوِّرَ بها الفيلم. لكنّ رسالة الفيلم كانت واضحة من البداية: "يذهب الطغاة ويأتي من هو أسوأ منهم. أما المبادئ التي تُبنَى عليها الثورات فهي أوّل ما يُضحَّى به، وكذلك من يصرّ على التمسّك بها".
وما زال فيلم الألماني التركي فاتح أكين من الأفلام المنتظرة في البندقية، خصوصًا بعد ضجة واكبته بسبب الموضوع الذي يتطرّق إليه، وهو مذابح الأرمن في الإمبراطورية العثمانية، في جزء ثالث من ثلاثية "الحبّ والموت والشيطان".
وكان جزءا الثلاثية السابقان: "رأس" و"في الجانب الآخر" حصلا تباعًا على جائزة "الدبّ الذهبي" في برلين العام 2004 وجائزة السيناريو في "كان" العام 2007، وها هو جزؤها الثالث "The cut" في البندقية، حيث يعود المخرج إلى رؤيته لمجازر الأرمن في العام 1915، من خلال قصّة حدّاد يبحث عن ابنتيه الناجيتين من المجزرة. ويقوم الفرنسي طاهر رحيم ببطولة هذا العمل.