من يوميات أب تحت التمرين

16 أكتوبر 2015
+ الخط -

(1)

أخذت ابنتي الكبرى تناقشني بحماس عن مزايا وعيوب الكاميرا الفوتوغرافية التي اشتريتها لها، لكي تمارس بها هوايتها في التصوير، وحين رأت عيني، بعد لحظات من حوارنا مغرورقة بالدموع، ظنت أنني غضبت من نقدها الكاميرا التي دفعت فيها دم قلبي، وأنا عللت ذلك بدخول شيء ما في عيني، إذ ظننت أنها ربما تسيء فهمي، لو قلت لها إنني بكيت، لأنني تذكرت خناقة مع أمي، الله يمسيها بالخير، جرت حين كنت في سن ابنتي، قالت لي فيها أمي بحسم لا مجال فيه للتفاوض: "الآلة الحاسبة دي مش بتاعتك لوحدك.. احنا جايبينها ليك ولإخواتك، ومن حق البيت كله يستعملها".

(2)

كنت، يومها، أحاول لعب دور الأب الغاضب الهادف إلى تقويم الاعوجاج السلوكي لطفلته، بتهديدها أنه سيحرمها منه لحظياً، قائلا لها بجدية شديدة: "أنا زعلان منك جداً، وعشان كده هاسيب لك البيت وأنزل"، حين قالت لي ابنتي الصغرى، بعد ابتسامة عريضة: "إيه هتنزل تروح الكباريه؟"، وأنا في الحقيقة أشفقت على المجهود الذي بذلته في إرشادها أن يضيع هباءً، فشخطت فيها قائلا: "اتكلمي معايا باحترام أحسن لك"، قبل أن أجري على غرفتي، وأقفل بابها لآخذ راحتي في الضحك.

(3)

بعد أن أدمنت ابنتي الكبرى، في الفترة الأخيرة، قراءة روايات الرعب والعنف التي أصبحت موضة بين من هم في سنها، توقفت عن ذلك فجأة ومن دون سابق إنذار، وبدأت، لحسن الحظ، في قراءة كتب الدكتور أحمد خالد توفيق. وخلال مناقشتي معها حول سر ذلك التحول المعرفي، قالت لي إنها شعرت أن تلك الروايات أدت إلى جعلها دموية أكثر من اللازم، وحين طلبت الشرح أكثر، أطلعتني على سر لم تكن قد قالته لأحد: "من أسبوعين، وقعت على السلم ونزل شوية دم من دراعي، لقيت نفسي بابص للدم، وباقول، يا ترى، طعمه عامل إزاي، هل لو شربته زي ما فلان بطل الرواية الفلانية شرب دم القتيل اللي انتقم منه، هاحب طعمه ولا لأ، والحقيقة جربت حتة بسيطة، فما عجبنيش طعم الدم، وقلت لازم أبطل قراية الروايات الدموية دي عشان شكلها بوظت لي دماغي"، وأنا لم أعلق، لكي لا أظهر أني فرحان، فتعاندني وتعود إلى قراءة تلك الروايات، واكتفيت بأن أحمد الله، في سري، على نعمة أحمد خالد توفيق.

(4)

ـ من محاورات أب مزنوق:

ـ بابا في واحدة صاحبتي في المدرسة النهارده، قالت لي إنتِ لما تكبري هتبقي وَتَكة، ولما سألتها يعني إيه قالت لي يعني فرسة، وماما قالت لي إن الكلمتين دول عيب وما ينفعش أقولهم أصلاً، هما ليه الكلمتين دول عيب، هما يعني إيه أصلاً، بابا إنت فين، إنت سامعني؟.

ـ هاه يا حبيبتي الصوت بيقطّع شوية، طيب بصي أنا داخل على نفق وهاقفل وأكلمك تاني.

ـ نفق إيه، إنت مش لسه قايلي إنك في المكتب.

ـ ما أقصدش نفق من اللي في الشوارع، أنا داخل على نفق بشكل عام، أول ما أعرف أتعامل معاه هاكلمك، سلام، لا إله إلا الله.

(5)

خذها نصيحة مخلصة من أب تحت التمرين: لا تعود أبناءك على أن يتكلموا بحرية، لأن ذلك سيكون جارحاً في نهاية الأمر. ستعرف ذلك عندما تقف لكي تملأ غلاية الماء، لكي تصنع لنفسك كوباً من الشاي، ثم تفاجأ بابنتك ذات السبعة أعوام، وهي تقول لك، وابتسامة ساخرة تملأ فمها "ياه، أخيراً قررت تعمل حاجة في حياتك في البيت ده".

انفجرت في الضحك أساساً، لكي أداري غيظي من صراحتها، فوضعت يدها على كرشي الذي كان يهتز من كثرة الضحك، وقالت بجدية شديدة: "بابا على فكرة أنا مبسوطة إنك خسيت شوية.. إنت كان فاضل لك شوية، وتبقى زي مها أحمد".  قلت لها وقد أتعبني امتزاج الضحك بالغيظ "اللي إنتِ ما تعرفيهوش إن مها أحمد أصلاً خست.. ويالله بقى امشي من قدامي يا بنت الكلب"، وهي نظرت إليّ من فوق لتحت بألاطة بالغة، وقالت "على فكرة النهارده الجمعة.. مش عارفة إزاي تشتم أصلاً في يوم الجمعة"، ثم تركت لي المطبخ بالذي فيه.

(6)

"يا رب أنا مستعد أواجه بشجاعة كل أسئلة ولادي السياسية والدينية والحياتية، وأحاول أجاوب عليها وأنا ونصيبي، بس الأسئلة التشريحية بلاش، وحياة حبيبك النبي بلاش".

دعوت هذا الدعاء صادقاً متضرعاً، بعد محادثة قصيرة مع ابنتي مريم، ذات الست سنوات ونصف، عندما جاءتني قادمة من الحمام، وهي تقول بمنتهى الجدية:

ـ بابا أنا عندي سؤال

ـ اتفضلي يا حبيبتي

ـ هو ليه البيبّي بينزل من قدام وما بينزلش من "الأأيشة" ـ أما البيبّي أعزك الله فهو ما خف حمله من فضلات الجسم، وأما الأأيشة فهي المرادف المسموح به لكلمة المؤخرة لدى مريم وأخيها يوسف لأنه لا زال أمامهما عشر سنين على الأقل حتى يصبح مسموحاً لهما استخدام المرادف الشعبي الذي كان أهلنا يستعملونه دون مواربة ـ .

بالطبع، لم أجب عن السؤال مباشرة، بل ظللت أحدق، برهة من الوقت، في "النو وير" على أمل أن تزهق مريم وتمشي، لكن فضول المعرفة لم يغادرها، لأنه لا يغادر الإنسان منا إلا بعد أن يبلغ من العمر سناً كافياً، لإدراك أن المعرفة عبء، وليست مكسباً. ولذلك، سألتني أو قل الحق أنها نهرتني:

ـ بابا هو أنا كل ما أسألك تسرح وتسيبني.. ممكن تجاوب عن السؤال؟

ـ سؤال إيه ياحبيبتي؟

ـ ليه البيبّي بينزل من قدام وما بينزلش من الأأيشة؟

ـ مش فاهم بتسألي ليه؟

ـ مش فاهمة.. وليه ما أسألش؟

ـ يعني ممكن تسألي عن مواضيع تانية أهم.

ـ بس ده الموضوع اللي أنا عايزة أعرفه دلوقتي.

ـ بصّي، يا حبيبتي، أنا دلوقتي باقرا كتاب عن شكل العالم سنة 2050، ساعتها إنتِ هيبقى عندك خمسين سنة، بإذن الله، ما تحبيش تعرفي العالم هيبقى شكله إيه، لما تبقي كبيرة؟

 ـ لا أنا عايز أعرف ليه البيبي بينزل من قدام وما بينزلش من الأأيشة؟

ـ همم.. طيب بصي.. هو ربنا سبحانه وتعالى عايز كده

ـ ليه؟

ـ عشان ربنا أراد أن الحاجات الخفيفة تنزل من قدام والحاجات التقيلة تنزل من الأأيشة.

 ـ أيوه ليه؟

ـ لإن كان هيبقى شكلنا وحش جداً، لو الأأيشة بتاعتنا بقت قدام بدل ماهي ورا.

ـ طب ليه الأأيشة ما فضلتش ورا في مكانها بس تنزل منها الحاجات الخفيفة والتقيلة وقدام يفضل زي ما هو بس ما ينزلش منه حاجة خالص.

ـ هه.. عشان أصل يعني عشان.  

ـ عشان إيه؟

ـ عشان ربنا عايز كده وما ينفعش نعترض على إرادته.

ـ أيوه ليه ربنا عايز كده.. رايح فين يابابا

ـ رايح الحمام عشان في حاجات خفيفة لازم تنزل من قدام.

ـ طب مش هتجاوبني ليه ربنا عايز كده؟.

ـ اسألي ماما. ولما تجاوبك قولي لي عشان أخرج من الحمام.

belalfadl@hotmail.com

دلالات
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.