المسار إذاً واضح، ولا يتطلب أية اجتهادات. فبعثة صندوق النقد الدولي في مصر حالياً للتأكد من التزام البلاد بتنفيذ برنامج الإصلاح الذي تم الاتفاق عليه، على الرغم من تعيينهم ممثلاً مقيماً للمتابعة، وذلك حتى نتمكن من الحصول على الشرائح المتبقية من قرض الاثني عشر مليار دولار.
وتقريباً تم الاتفاق على كافة النقاط، التي يبدو أنها لم تكن أبداً محل خلاف، وبقيت نقطة واحدة تتعلق بتوقيت تنفيذ أحد أهم بنود الاتفاق، وهو إصلاح أسعار الطاقة.
وكان الصندوق قد طلب من الحكومة، أو في أقوال أخرى، فإن الحكومة قد أعلنت من تلقاء نفسها عن تطبيق برنامج للإصلاح الاقتصادي والمالي، يشمل ضمن ما يشمل تحرير سعر الصرف، وإلغاء الدعم عن أغلب مصادر الطاقة، وتخفيض بند الأجور، وأيضاً زيادة موارد الدولة من الضرائب، من أجل الحصول على قرض الصندوق.
وأظهر التقرير الصادر عن صندوق النقد الدولي، قرب نهاية سبتمبر 2017، بعد انتهاء المراجعة الأولى لخطوات الحكومة المصرية في ذلك الاتجاه، أن الحكومة المصرية قد تعهدت، أو اتفقت، أو قبلت بإلغاء تام لدعم الطاقة، بنهاية يونيو 2019، ليصبح تسعير الوقود والكهرباء في مصر مساوياً أو مقارباً لمثيله العالمي.
وقد أشار التقرير إلى أن الحكومة المصرية طلبت- فقط- إمهالها حتى يوليو 2018 قبل إجراء رفع جديد لأسعار الوقود والكهرباء، تجنباً لتزايد الغضب الشعبي، بعد رفع أسعارهما أكثر من مرة خلال الفترة القصيرة الماضية، ولم يشر التقرير إلى رغبة الحكومة في تأجيل الرفع إلى ما بعد انتهاء الانتخابات الرئيسية في يونيو 2018.
لكن صندوق النقد يضغط حالياً لرفع الأسعار مع بداية 2018، تحسباً لارتفاع أسعار الوقود عالمياً، مما يصعب من مهمة الوصول بالسعر المحلي إلى نظيره العالمي!.
إذاً الخلاف ليس في إجراء الرفع من عدمه، وإنما في توقيته! ولابد أن نعترف بأن إعلان الحكومة أكثر من مرة عدم وجود نية لرفع أسعار الوقود في 2017 لا يعد من قبيل الكذب الذي اعتادت بعض الشعوب على سماعه من حكوماتها، وإنما هو تعبير عن واقع، ولا يعني بأية حال عدم وجود توجه لرفع الأسعار في المستقبل القريب، وهو المحدد موعده بحلول يوليو 2018 كما ذكر تقرير الصندوق، إن لم ترضخ الحكومة لضغوط الصندوق للبدء فيه قبل ذلك.
وأشار التقرير أيضاً إلى اتفاق الصندوق مع الحكومة المصرية على تحرير سعر بيع الوقود بأنواعه المختلفة في السوق المصرية، وأنه على الحكومة المصرية إعداد معادلة أو آلية يتم بمقتضاها تحديد سعر الوقود كل ثلاثة أشهر، وتأخذ في الاعتبار ضمن عوامل أخرى السعر العالمي للوقود، وسعر صرف الجنيه المصري مقابل الدولار، وأيضاً نسبة المستورد إلى المستخدم من الوقود المباع في مصر، وهو ما يعني أن أسعار الوقود ستكون متغيرة كل ثلاثة أشهر، مع عدم وجود دعم حكومي على الإطلاق لسعر الوقود في مصر بنهاية يونيو 2019.
لم يراع طرفا الاتفاق ظروف المواطن المصري، ولم يأخذا في الاعتبار انخفاض الأجور في مصر عن المتوسطات العالمية، ولا غياب أية قوانين تسمح بتحقيق عدالة اجتماعية، ولا صعوبة حصول المصريين على خدمات تعليمية وصحية لائقة بتكاليف مقبولة، واتفقا على إلغاء دعم الوقود في مصر.
لم يكلف طرفا الاتفاق نفسيهما عناء البحث في كيفية تحمّل المصريين الارتفاعات المتتالية في الأسعار، والتي وصلت بمعدلات التضخم المعلن إلى مستوى 35%، ولا كيفية استطاعة المصريين الحصول على سكن لائق بعد الارتفاعات الرهيبة في أسعار البيوت، وأغفل طرفا الاتفاق ما تقدمه الحكومات الأخرى لمواطنيها من خدمات صحية وتعليمية وصرف صحي وطرق وغيرها قبل أن تبيع لهم الوقود بالأسعار العالمية.
لكن من الواضح من التقرير أن الصندوق يدرك جيداً أن تحرير أسعار الطاقة في مصر سيزيد من أعباء الفئات الأكثر ضعفاً والأقل دخلاً وأصحاب المعاشات، وبناءً عليه فقد طلب الصندوق من الحكومة المصرية زيادة الدعم المقدم لتلك الفئات لمساعدتهم في التعامل مع تحرير أسعار الطاقة والنتائج المترتبة عليه.
وطالب الصندوق الحكومة بتوجيه مبلغ 25 مليار جنيه على الأقل للإنفاق الاجتماعي، وهو ما يشمل الدعم النقدي المباشر لتلك الفئات، الضمان الاجتماعي، والوجبات الغذائية المدرسية المجانية أو منخفضة التكلفة، وأيضاً التأمين الصحي والأدوية المجانية.
طالب الصندوق الحكومة أيضا بالالتزام بهذا البند قبل نهاية يونيو 2017 كشرطٍ من شروط صرف الشرائح المتبقية من القرض. لكن، شأنه شأن أغلب النقاط المتعلقة بحماية المواطنين وتعويضهم ضمن اتفاق الصندوق مع الحكومة، فقد ورد بجواره تعليق "جار العمل عليه".
أما النقاط المرتبطة بزيادة أعباء المواطن، مثل خفض الدعم، وزيادة الضرائب، وأيضاً تحرير سعر صرف الجنيه، فقد صاحبها تعليق "اكتمل". وكأن التزام الحكومة مطلوب فقط في كل ما يتحمل تكلفته ويدفع ثمنه المواطن، بينما يمكن إمهالها بعض - أو الكثير من- الوقت، عندما يتعلق الأمر بتعويض المواطن، أو توفير إجراءات الحماية الاجتماعية.
وتجدر هنا الإشارة إلى أننا نتحدث عن توجيه مبلغ محدد سلفاً ضمن الموازنة العامة للدولة لمساعدة بعض الفئات الأكثر احتياجاً، ولم نتطرق بعد لإيجاد التشريعات التي تضمن تحقيق عدالة اجتماعية، وتساعد على توفير صورة أكثر عدلاً لتوزيع الدخل على المواطنين، وهو ما قد يحتاج بعض الوقت.
تزامن انتهائي من قراءة تقرير الصندوق للمرة السابعة مع وصول فريقه إلى القاهرة لمتابعة التزام الحكومة المصرية بإجراءات الإصلاح المتفق عليها، وليتأكد من الالتزام بالبرنامج الزمني، فحسدتهم! وتمنيت لو أننا كمصريين استطعنا إرسال من يمثلنا ويدافع عن حقوقنا أمام الصندوق، ويتأكد من التزام حكومتنا بإجراءات حماية المواطنين وتوقيتاتها، كما تفعل مع إجراءات الإصلاح.