يروي لنا التاريخ الاقتصادي أن أوروبا في العصور الوسطى اعتمدت على إنتاج كل من سهول إيبريا (أسبانيا والبرتغال)، وعلى سهول إيطاليا (صقلية) في إنتاج الجبوب التي تحتاجها، ولكن إذا صدف وعانت هذه المناطق من شح الأمطار، فإن إنتاجها من القمح يتراجع كثيراً.
ولذلك، كانت تطلب شراء ما ينقصها من السودان والجزائر المنتجتين لهذه المادة بكميات وفيرة. ولكنهما لم تستطيعا بيع أوروبا القمح، إلا إذا أخذتا إذناً بذلك من الباب العالي في الأستانة (اسطنبول) عاصمة الدولة العثمانية آنذاك. وقد استخدم الباب العالي سياسة منع بيع القمح لأوروبا وسيلة عقابية ضدها، كلما ساهمت في عمل عدائي ضد الدولة العثمانية.
وحلا للمشكلة، صار قراصنة البحر المدعومون سراً من دول أوروبا يهاجمون سفن القمح في البحر المتوسط، والتي تحمل القمح والحبوب الأخرى إلى تركيا ومناطق أخرى تحت الحكم العثماني.
وأدى الأمر إلى أن تحتج السودان والجزائر لدى الباب العالي، بوجوب توفير الحماية لهما من القرصنة الأوروبية، فأرسل الباب العالي لهام خير الدين بربروسا (ذا اللحية الحمراء)، والذي بدأ بمهاجمة سفن القراصنة، والموانئ التي تنطلق منها في أوروبا.
ولذلك، يشير الأوروبيون إلى بربروسا بأسلوب سلبي، واصفين إياه بالقرصان الرهيب، بينما ينظر إليه في شمال أفريقيا بطلا شجاعا، وأطلق اسمه على ميناء مدينة الجزائر العاصمة.
تعطي هذه الحكاية مثالاً ناصعاً على أن أسلوب المقاطعة والحصار الاقتصادي، وحتى الحروب الاقتصادية، لتحقيق مآرب سياسية أو عسكرية قد استخدم منذ بداية تاريخ البشرية، وأن الحروب لتحقيق موارد جديدة، ومكاسب جديدة والاستيلاء على ثروات الآخرين واستعبادهم أحياناً قد تزامنت مع بداية تاريخ الإنسان.
ولكن الإنسان طوّر، مع الوقت، هذه الأساليب، وجعل منها فناً معقداً. وإذا استعرضنا أمثلة كثيرة من التاريخ، لنرى مدى نجاعة الحصار الاقتصادي، أو العقوبات الاقتصادية، أو الحروب الاقتصادية، في تحقيق مآربها، لخرجنا بنتائج متناقضة، وفشل كثير منها، خصوصا في القرنين التاسع عشر والعشرين.
ومن هذه الأمثلة المقاطعة الاقتصادية التي فرضها العرب على إسرائيل بعد عام 1948، وقد اشتملت الأنواع الثلاثة. أشار الأول إلى عدم الشراء والبيع أو التعامل المباشر مع أي شخص إسرائيلي، طبيعياً كان أم معنوياً. والثاني عدم شراء سلع فيها مدخلات إسرائيلية. والثالث هو القائمة السوداء للشركات الأجنبية التي تتعامل مع إسرائيل.
وإذا عدنا بالتاريخ لنقيّم هذه التجربة بكل موضوعية وتجرّد، نرى أنها فشلت. وقد تبين أن بضائع إسرائيلية كثيرة، موجهة إلى دول غير مقاطعة، كانت تغير علاماتها التجارية، وشهادة منشئها، وتعاد تعبئة البضائع بعبواتٍ جديدة، وتباع في الأسواق العربية. كما أن نجاح إسرائيل في تطوير تكنولوجيا السلاح وأدوات الرقابة الإشعاعية (مثل أشعة ليزر)، والإلكترونية التي تدخل في صناعة الطائرات المقاتلة والمنتجة من شركات غربية نجحت في أن تدخل الأسواق العربية، وإن لم يعترف بذلك. وكذلك، بنت إسرائيل اقتصادها على تجاوز العالم العربي إلى أسواق أكثر تعقيداً وتنافسية، ما دفعها إلى التركيز على النوع والبحث والتطوير، ما مكّنها أن تدخل أسواقاً أوروبية وآسيوية وأميركية مقابل عوائد مجزية.
تحول مكتب المقاطعة العربية للاقتصاد الإسرائيلي، والموجود في دمشق، إلى ذكرى، إذ لا يشهد أي اجتماعات. ولولا نشاط هيئات غير حكومية في مقاطعة المنتجات الإسرائيلية، وفي وقف التعاون البحثي بينها وبين بعض الجامعات الغربية، وقيام بعض الأوروبيين والعرب المقيمين في أميركا بجهد خلاق لمقاطعة السلع المصدرة من المستعمرات غير الشرعية، لما كان للمقاطعة أثر يذكر.
ومن الأمثلة الأخرى على المقاطعة فشل أميركا في محاصرة كوبا القريبة منها، والتي اعتمدت يوما على علاقاتها الاقتصادية مع الولايات المتحدة. وفي نهاية المطاف، أعاد الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، العلاقات الدبلوماسية مع كوبا، وخفف كثيراً من إجراءات المقاطعة ضدها.
وفي حرب فيتنام، أقدمت الولايات المتحدة على حرق مئات الألوف من الدونمات المزروعة ومن الغابات، وألقت عليها أطناناً من قنابل النابالم، ومن المواد السامة التي تحرق الزرع والأرض، وتجعل إمكانية استنباتها غير محتملة سنوات عديدة.
ولكن إرادة الشعب هنالك انتصرت في نهاية المطاف، ورأينا خروج الجنود الأميركان من فيتنام في منتصف السبعينيات من القرن الماضي على شاشات التلفزة، وهم يتنازعون للوصول إلى طائرات الهليكوبتر.
أحيانا تنجح الإجراءات الاقتصادية السلبية في إيذاء الدول المستهدفة من هذه الإجراءات، ولكنها كلها تبقى محدودة ومحتملة، لأن العالم يتيح بدائل، فالحصار الإسرائيلي على قطاع غزة، والذي مضت عليه سنوات، والشامل الجو والأرض والبحر، قد سبب كثيرا من الألم لأهل هذا القطاع الصابرين الجبارين، وعلى الرغم من أن الحصار قد دعم بالأسلحة الحارقة والهدامة، والتي قوّضت المنازل والمؤسسات والبنى التحتية، إلا أن أهل غزة لا يزالون على الأرض واقفين. صحيح أن حياتهم بحاجة إلى دعم وعون، لكن قدرة الإنسان على تحمل الأذى ليس لها حدود، إن رافقها الإيمان بضرورة الصمود.
وأخيراً، دعونا نقيّم آثار الحصار الاقتصادي الذي فرضته ثلاث دول خليجية على دولة قطر. صحيح أنه سوف يحدث آثاراً سلبية على اقتصاد قطر، لكنه لن يمسّ الأساسيات، فهو بطبيعته غير قابل للتنفيذ الكلي، ما يجعل فاتورة قطر للحصول على حاجاتها أكثر كلفةً، لكنه، في نهاية المطاف، لن يجعل قطر ترضخ للشروط التي طلبت منها.
لا بد من التأكيد أن دول الخليج تشكل 47% من الناتج المحلي الإجمالي العربي، وأن معدل دخل الفرد في قطر يتجاوز 120 ألف دولار في السنة، وأن هذا الحصار سيضر باقتصاديات الجميع إن استمر، أو إذا ردت دولة قطر عليه.
تدل الأدلة التاريخية على أن للحصار الاقتصادي، خصوصا في القرن الحادي والعشرين، ثمنا يدفعه المحاصِر (بكسر الصاد) والمحاصَر (بفتح الصاد). ويبدو أن الكلفة على الأول تكون أعلى منها على الثاني.
اقــرأ أيضاً
وحلا للمشكلة، صار قراصنة البحر المدعومون سراً من دول أوروبا يهاجمون سفن القمح في البحر المتوسط، والتي تحمل القمح والحبوب الأخرى إلى تركيا ومناطق أخرى تحت الحكم العثماني.
وأدى الأمر إلى أن تحتج السودان والجزائر لدى الباب العالي، بوجوب توفير الحماية لهما من القرصنة الأوروبية، فأرسل الباب العالي لهام خير الدين بربروسا (ذا اللحية الحمراء)، والذي بدأ بمهاجمة سفن القراصنة، والموانئ التي تنطلق منها في أوروبا.
ولذلك، يشير الأوروبيون إلى بربروسا بأسلوب سلبي، واصفين إياه بالقرصان الرهيب، بينما ينظر إليه في شمال أفريقيا بطلا شجاعا، وأطلق اسمه على ميناء مدينة الجزائر العاصمة.
تعطي هذه الحكاية مثالاً ناصعاً على أن أسلوب المقاطعة والحصار الاقتصادي، وحتى الحروب الاقتصادية، لتحقيق مآرب سياسية أو عسكرية قد استخدم منذ بداية تاريخ البشرية، وأن الحروب لتحقيق موارد جديدة، ومكاسب جديدة والاستيلاء على ثروات الآخرين واستعبادهم أحياناً قد تزامنت مع بداية تاريخ الإنسان.
ولكن الإنسان طوّر، مع الوقت، هذه الأساليب، وجعل منها فناً معقداً. وإذا استعرضنا أمثلة كثيرة من التاريخ، لنرى مدى نجاعة الحصار الاقتصادي، أو العقوبات الاقتصادية، أو الحروب الاقتصادية، في تحقيق مآربها، لخرجنا بنتائج متناقضة، وفشل كثير منها، خصوصا في القرنين التاسع عشر والعشرين.
ومن هذه الأمثلة المقاطعة الاقتصادية التي فرضها العرب على إسرائيل بعد عام 1948، وقد اشتملت الأنواع الثلاثة. أشار الأول إلى عدم الشراء والبيع أو التعامل المباشر مع أي شخص إسرائيلي، طبيعياً كان أم معنوياً. والثاني عدم شراء سلع فيها مدخلات إسرائيلية. والثالث هو القائمة السوداء للشركات الأجنبية التي تتعامل مع إسرائيل.
وإذا عدنا بالتاريخ لنقيّم هذه التجربة بكل موضوعية وتجرّد، نرى أنها فشلت. وقد تبين أن بضائع إسرائيلية كثيرة، موجهة إلى دول غير مقاطعة، كانت تغير علاماتها التجارية، وشهادة منشئها، وتعاد تعبئة البضائع بعبواتٍ جديدة، وتباع في الأسواق العربية. كما أن نجاح إسرائيل في تطوير تكنولوجيا السلاح وأدوات الرقابة الإشعاعية (مثل أشعة ليزر)، والإلكترونية التي تدخل في صناعة الطائرات المقاتلة والمنتجة من شركات غربية نجحت في أن تدخل الأسواق العربية، وإن لم يعترف بذلك. وكذلك، بنت إسرائيل اقتصادها على تجاوز العالم العربي إلى أسواق أكثر تعقيداً وتنافسية، ما دفعها إلى التركيز على النوع والبحث والتطوير، ما مكّنها أن تدخل أسواقاً أوروبية وآسيوية وأميركية مقابل عوائد مجزية.
تحول مكتب المقاطعة العربية للاقتصاد الإسرائيلي، والموجود في دمشق، إلى ذكرى، إذ لا يشهد أي اجتماعات. ولولا نشاط هيئات غير حكومية في مقاطعة المنتجات الإسرائيلية، وفي وقف التعاون البحثي بينها وبين بعض الجامعات الغربية، وقيام بعض الأوروبيين والعرب المقيمين في أميركا بجهد خلاق لمقاطعة السلع المصدرة من المستعمرات غير الشرعية، لما كان للمقاطعة أثر يذكر.
ومن الأمثلة الأخرى على المقاطعة فشل أميركا في محاصرة كوبا القريبة منها، والتي اعتمدت يوما على علاقاتها الاقتصادية مع الولايات المتحدة. وفي نهاية المطاف، أعاد الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، العلاقات الدبلوماسية مع كوبا، وخفف كثيراً من إجراءات المقاطعة ضدها.
وفي حرب فيتنام، أقدمت الولايات المتحدة على حرق مئات الألوف من الدونمات المزروعة ومن الغابات، وألقت عليها أطناناً من قنابل النابالم، ومن المواد السامة التي تحرق الزرع والأرض، وتجعل إمكانية استنباتها غير محتملة سنوات عديدة.
ولكن إرادة الشعب هنالك انتصرت في نهاية المطاف، ورأينا خروج الجنود الأميركان من فيتنام في منتصف السبعينيات من القرن الماضي على شاشات التلفزة، وهم يتنازعون للوصول إلى طائرات الهليكوبتر.
أحيانا تنجح الإجراءات الاقتصادية السلبية في إيذاء الدول المستهدفة من هذه الإجراءات، ولكنها كلها تبقى محدودة ومحتملة، لأن العالم يتيح بدائل، فالحصار الإسرائيلي على قطاع غزة، والذي مضت عليه سنوات، والشامل الجو والأرض والبحر، قد سبب كثيرا من الألم لأهل هذا القطاع الصابرين الجبارين، وعلى الرغم من أن الحصار قد دعم بالأسلحة الحارقة والهدامة، والتي قوّضت المنازل والمؤسسات والبنى التحتية، إلا أن أهل غزة لا يزالون على الأرض واقفين. صحيح أن حياتهم بحاجة إلى دعم وعون، لكن قدرة الإنسان على تحمل الأذى ليس لها حدود، إن رافقها الإيمان بضرورة الصمود.
وأخيراً، دعونا نقيّم آثار الحصار الاقتصادي الذي فرضته ثلاث دول خليجية على دولة قطر. صحيح أنه سوف يحدث آثاراً سلبية على اقتصاد قطر، لكنه لن يمسّ الأساسيات، فهو بطبيعته غير قابل للتنفيذ الكلي، ما يجعل فاتورة قطر للحصول على حاجاتها أكثر كلفةً، لكنه، في نهاية المطاف، لن يجعل قطر ترضخ للشروط التي طلبت منها.
لا بد من التأكيد أن دول الخليج تشكل 47% من الناتج المحلي الإجمالي العربي، وأن معدل دخل الفرد في قطر يتجاوز 120 ألف دولار في السنة، وأن هذا الحصار سيضر باقتصاديات الجميع إن استمر، أو إذا ردت دولة قطر عليه.
تدل الأدلة التاريخية على أن للحصار الاقتصادي، خصوصا في القرن الحادي والعشرين، ثمنا يدفعه المحاصِر (بكسر الصاد) والمحاصَر (بفتح الصاد). ويبدو أن الكلفة على الأول تكون أعلى منها على الثاني.