12 ابريل 2023
من مصر إلى بغداد... لكل زمان جمال
نعيش اليوم في الزمن الأكثر تعقيداً وتضييقاً، تسلبنا عجلة الحياة السريعة متعة الجمال وأناقة اللحظات، لنعيش مثل آلة يملؤها الصدأ لا تتبصر ولا تحنو، يصل صوت أزيزها بعيداً وهي لا تدري بحالها المتهالك، رغم أن للمشاعر رونقاً لا يفقهه إلا ذو عقل عرف قيمة الوقت بعد أن مر عليه الزمن الجميل، ليحتفي بنفسه اليوم فاقداً لزهرة أيامه التي ذبلت بين ندم وانتظار، هو الانتظار نفسه الذي نعيشه حالياً غير مدركين لصور واقعنا الذي لا يخلو من السحر.
سأصحبك عزيزي القارئ في رحلة عبر الزمن لعواصم عربية، رحلة خيالية واقعية خالية من بقايا حطام الحروب وتلوث الفاسدين ومستنقعات الطغاة، اربطوا الأحزمة لتشاهدوا أعرق الصور الشرقية، مشاهد جميلة مؤلمة، فللقارئ الحق أن يبحر في خياله بعيداً خلف أفق الماضي، ولو لدقائق ليستمتع ببعض التفاصيل التي لم يحضرها يوماً ولن يغشاها ربما في حياته لتغير الزمان وصعوبة المكان.
يجلس القرفصاء أمام تلك الحافلة المشهورة ببابها وشبابيكها الخشبية، يسامره زميله الذي يرتدي نفس الدشداشة البيضاء والعمامة الواقية من الشمس، ينتظران ريثما تمتلئ تلك الحافلة المتجهة من العاصمة بغداد نحو البصرة، كوب من الشاي لا يضر بل يساعد على مرور الوقت، تظهر امرأتان عراقيتان ترتديان عباءة رأس سوداء تسيران على استحياء متجهتان نحو الحافلة.
كانت تصطف في الشوارع القريبة؛ السيارات الألمانية 190، وبعض الحافلات الحمراء ذات الطبقتين، كل شيء كان منظما ومرتبا الى أبعد حدود الخيال، شوارع نظيفة ابتسامات عابرة، كل ذلك يظهر في صورة التقطت عام 1975.
كنت أنوي فعلاً ركوب تلك الحافلة اللافتة إلى أن رأيت ما هو أجمل بكثير، القطار اللبناني.. فلا أعتقد أن بغداد والبصرة ستكونان بنفس سحر جبال الثلج اللبنانية التي يخترقها القطار وسط صمت الطبيعة وهدوء الوادي، مطلقاً لصافرته العنان متجها من محافظة جبل لبنان إلى السواحل اللبنانية، إنه "خط السكة" كما يحب أن يطلق عليه اللبنانيون..
لا تقلق عزيزي القارئ فخط السكة ما زال موجوداً حتى يومنا هذا لكن غمرته بعض الحشائش والطحالب، والقطار يقف في محطته اليوم ولكن دون ركاب مع بعض الصدأ والحديد المهترئ، وربما تسكنه حيوانات ضالة، يظهر القطار في صورة أرشيفية سنة 1968.
ومن ستينيات القرن الماضي إلى ثلاثينيات فلسطين، فخط السكة اللبناني لا يقل إثارة وتشويقا عن ذلك الإعلان الذي علقته شركة "كزدورة وصورة" المتجهة إلى حيفا في السابع من إبريل/نيسان 1936، الشركة المبتكرة بإمكانها أن تقلك من عدة نقاط عمان ديوان الذوق، بيروت شارع الحمرا، دمشق الجامع الأموي، القدس باب العامود، غزة شارع المختار، جنين جامع الكبير، يتسنى على الراغب بتلك الرحلة أن يبدأ بادخار أمواله قبل أشهر لتوفير ثمن التذكرة التي قدر ثمنها بجنيه فلسطيني، ربما علي الانتظار حتى الربيع القادم لآخذ مقعدا من نقطة شارع الحمرا.
ومن حيفا إلى يافا وبيارة البرتقال السكري، يجلس الرجال في صورة عام 1937 بملامح سمراء قاسية على أرض مليئة بأكياس الخيش والسلال متقنة الصنع، وحولهم جحافل من شجر البرتقال والذي تظنه لغزارته يستغرق سنوات من القطاف، يجمعون البرتقال بكل إتقان استعداداً للفرز، يعلق العمال ملابسهم على الأشجار القريبة، علّهم يحتاجون إلى تبديل ما يلبسون بعد العمل اللا منقطع. منهم من يرتدي الشروال والطاقية ومن يضع على ظهره السلال، إنه موسم البرتقال في يافا لا مجال للراحة ولا مجال للنقاش، حان وقت العمل.
ومن موسم البرتقال اليافاوي إلى أول أيام العيد في صعيد مصر عام 1950، تضيق أرجوحة المركب بأربع فتيات صغيرات يرتدين فساتين بأكمام طويلة ومعهم أخوهم يبدو كرجل صغير في لباسه لولا ابتسامته الطفولية، تتدلى أرجلهم منها، يجلسون حتى آخر الطرف، تحلق أرجوحة المركب عالياً خلفها تتوزع أشجار النخيل وحقول زراعية على مد البصر وطابور لا ينتهي من الأطفال المنتظر دوره على أرجوحة المركب التي ترتفع عالياً.
أكاد أجزم أن أرجوحة المركب لا تخلو من أي بلد عربي في موسم الأعياد، فحتى أنا كانت أرجوحتي المفضلة ولولا كبر حجمي لكنت جلست بجانب الأطفال لأصرخ وأضحك معهم.
تقف ليلى تيريز توما حاملة كأس فوزها بلقب ملكة جمال سورية لعام 1952، تظنها للوهلة الأولى الممثلة فاتن حمامة لما فيها من ملامح ناعمة حد الطفولة، شعرها قصير مصفف بإتقان طبيعي جداً، وكأنها استيقظت من نومها، سرحت شعرها، وحضرت المسابقة لتربح، تبتسم ابتسامة خجولة، ترتدي قميصا واسعا وعقدا قصيرا يعانق رقبتها، "ما زالت طالبة تستعد لامتحان البكالوريا" حسب الكلمات المكتوبة بجانب صورتها.
لا يمكنك أن ترى صور الماضي ولا تبتسم وفي قلبك غصة، فكل شيء كان متقنا في الملامح والشوارع والبساتين لا تشوبه شائبة، لست هنا للبكاء على أطلال الماضي ولا حتى لفتح جراح الأيام أو حتى لعمل مقارنات ومن ثم التنظير، ولكن هي دعوة للتبصر والوعي.
فالماضي الذي ذهب أدراج الرياح كان حاضراً يتذمر منه الناس ويملؤون أيامهم بالقلق والانتظار، واليوم رغم مخاصمتنا للأيام، وإضاعة الكثير منها، إلا أننا نقبع في أماكن وأزمنة لا تخلو من تفاصيل البهاء والإبداع، ولكن إذا أردنا أن ننظر إليها بقلوبنا وبعين أرادت فعلاً أن ترى ما يسّرها. فلكل زمان جمال.
ماذا لو نظرنا إلى حياتنا كصور قديمة سيطالعها أحد الشباب في القرن القادم ويتحسر وعلى وجهه ابتسامة لفقدان لوحات وظروف نتمتع بها في واقعنا الحالي؟
أعتقد كل شيء سيتغير ويعود أنيقاً في عيوننا المستعمية، شوارعنا، أنفسنا، وداخل بيوتنا، فلنرحم أرواحنا قليلاً من البؤس والتذمر ونأخذ فاصلا صغيرا من الحياة أو نخرج من الزمان إلى زمان آخر، نوقف عجلته السريعة ونراقب كل سحر حولنا، في أدق ألوان الحياة المتناغمة، نضبط فيه بوصلتنا، نتناسى فيه أحزاننا ولوعة الماضي، ونبتسم لواقع ربما يصبح صوراً فوتوغرافية أو حتى إلكترونية مفرحة لأجيالنا القادمة.. هم يتحسرون عليها ونحن لم ندرِ بحالها.
يجلس القرفصاء أمام تلك الحافلة المشهورة ببابها وشبابيكها الخشبية، يسامره زميله الذي يرتدي نفس الدشداشة البيضاء والعمامة الواقية من الشمس، ينتظران ريثما تمتلئ تلك الحافلة المتجهة من العاصمة بغداد نحو البصرة، كوب من الشاي لا يضر بل يساعد على مرور الوقت، تظهر امرأتان عراقيتان ترتديان عباءة رأس سوداء تسيران على استحياء متجهتان نحو الحافلة.
كانت تصطف في الشوارع القريبة؛ السيارات الألمانية 190، وبعض الحافلات الحمراء ذات الطبقتين، كل شيء كان منظما ومرتبا الى أبعد حدود الخيال، شوارع نظيفة ابتسامات عابرة، كل ذلك يظهر في صورة التقطت عام 1975.
كنت أنوي فعلاً ركوب تلك الحافلة اللافتة إلى أن رأيت ما هو أجمل بكثير، القطار اللبناني.. فلا أعتقد أن بغداد والبصرة ستكونان بنفس سحر جبال الثلج اللبنانية التي يخترقها القطار وسط صمت الطبيعة وهدوء الوادي، مطلقاً لصافرته العنان متجها من محافظة جبل لبنان إلى السواحل اللبنانية، إنه "خط السكة" كما يحب أن يطلق عليه اللبنانيون..
لا تقلق عزيزي القارئ فخط السكة ما زال موجوداً حتى يومنا هذا لكن غمرته بعض الحشائش والطحالب، والقطار يقف في محطته اليوم ولكن دون ركاب مع بعض الصدأ والحديد المهترئ، وربما تسكنه حيوانات ضالة، يظهر القطار في صورة أرشيفية سنة 1968.
ومن ستينيات القرن الماضي إلى ثلاثينيات فلسطين، فخط السكة اللبناني لا يقل إثارة وتشويقا عن ذلك الإعلان الذي علقته شركة "كزدورة وصورة" المتجهة إلى حيفا في السابع من إبريل/نيسان 1936، الشركة المبتكرة بإمكانها أن تقلك من عدة نقاط عمان ديوان الذوق، بيروت شارع الحمرا، دمشق الجامع الأموي، القدس باب العامود، غزة شارع المختار، جنين جامع الكبير، يتسنى على الراغب بتلك الرحلة أن يبدأ بادخار أمواله قبل أشهر لتوفير ثمن التذكرة التي قدر ثمنها بجنيه فلسطيني، ربما علي الانتظار حتى الربيع القادم لآخذ مقعدا من نقطة شارع الحمرا.
ومن حيفا إلى يافا وبيارة البرتقال السكري، يجلس الرجال في صورة عام 1937 بملامح سمراء قاسية على أرض مليئة بأكياس الخيش والسلال متقنة الصنع، وحولهم جحافل من شجر البرتقال والذي تظنه لغزارته يستغرق سنوات من القطاف، يجمعون البرتقال بكل إتقان استعداداً للفرز، يعلق العمال ملابسهم على الأشجار القريبة، علّهم يحتاجون إلى تبديل ما يلبسون بعد العمل اللا منقطع. منهم من يرتدي الشروال والطاقية ومن يضع على ظهره السلال، إنه موسم البرتقال في يافا لا مجال للراحة ولا مجال للنقاش، حان وقت العمل.
ومن موسم البرتقال اليافاوي إلى أول أيام العيد في صعيد مصر عام 1950، تضيق أرجوحة المركب بأربع فتيات صغيرات يرتدين فساتين بأكمام طويلة ومعهم أخوهم يبدو كرجل صغير في لباسه لولا ابتسامته الطفولية، تتدلى أرجلهم منها، يجلسون حتى آخر الطرف، تحلق أرجوحة المركب عالياً خلفها تتوزع أشجار النخيل وحقول زراعية على مد البصر وطابور لا ينتهي من الأطفال المنتظر دوره على أرجوحة المركب التي ترتفع عالياً.
أكاد أجزم أن أرجوحة المركب لا تخلو من أي بلد عربي في موسم الأعياد، فحتى أنا كانت أرجوحتي المفضلة ولولا كبر حجمي لكنت جلست بجانب الأطفال لأصرخ وأضحك معهم.
تقف ليلى تيريز توما حاملة كأس فوزها بلقب ملكة جمال سورية لعام 1952، تظنها للوهلة الأولى الممثلة فاتن حمامة لما فيها من ملامح ناعمة حد الطفولة، شعرها قصير مصفف بإتقان طبيعي جداً، وكأنها استيقظت من نومها، سرحت شعرها، وحضرت المسابقة لتربح، تبتسم ابتسامة خجولة، ترتدي قميصا واسعا وعقدا قصيرا يعانق رقبتها، "ما زالت طالبة تستعد لامتحان البكالوريا" حسب الكلمات المكتوبة بجانب صورتها.
لا يمكنك أن ترى صور الماضي ولا تبتسم وفي قلبك غصة، فكل شيء كان متقنا في الملامح والشوارع والبساتين لا تشوبه شائبة، لست هنا للبكاء على أطلال الماضي ولا حتى لفتح جراح الأيام أو حتى لعمل مقارنات ومن ثم التنظير، ولكن هي دعوة للتبصر والوعي.
فالماضي الذي ذهب أدراج الرياح كان حاضراً يتذمر منه الناس ويملؤون أيامهم بالقلق والانتظار، واليوم رغم مخاصمتنا للأيام، وإضاعة الكثير منها، إلا أننا نقبع في أماكن وأزمنة لا تخلو من تفاصيل البهاء والإبداع، ولكن إذا أردنا أن ننظر إليها بقلوبنا وبعين أرادت فعلاً أن ترى ما يسّرها. فلكل زمان جمال.
ماذا لو نظرنا إلى حياتنا كصور قديمة سيطالعها أحد الشباب في القرن القادم ويتحسر وعلى وجهه ابتسامة لفقدان لوحات وظروف نتمتع بها في واقعنا الحالي؟
أعتقد كل شيء سيتغير ويعود أنيقاً في عيوننا المستعمية، شوارعنا، أنفسنا، وداخل بيوتنا، فلنرحم أرواحنا قليلاً من البؤس والتذمر ونأخذ فاصلا صغيرا من الحياة أو نخرج من الزمان إلى زمان آخر، نوقف عجلته السريعة ونراقب كل سحر حولنا، في أدق ألوان الحياة المتناغمة، نضبط فيه بوصلتنا، نتناسى فيه أحزاننا ولوعة الماضي، ونبتسم لواقع ربما يصبح صوراً فوتوغرافية أو حتى إلكترونية مفرحة لأجيالنا القادمة.. هم يتحسرون عليها ونحن لم ندرِ بحالها.