من طبرق إلى طرابلس والعكس

20 مايو 2019
+ الخط -
لم يكن خافياً على أي مراقب للشأن الليبي أن المسار السياسي الذي كان يُفترض استمراره خلال العام الجاري (2019) لم يكن مقبولاً من بعض الأطراف، تحديداً من خليفة حفتر وحلفائه وداعميه من داخل ليبيا وخارجها. الجديد الذي حملته مستجدات الأزمة الليبية، في الأشهر القليلة الماضية، أنها كشفت عن انتقال ذلك الرفض من مربع المواقف السياسية، والتعاطي الدبلوماسي المرن، إلى نطاق الخطوات العملية في أقوى صورها، التحرّك العسكري، فلو لم يشن حفتر حملته العسكرية، لانعقد "الملتقى الوطني الجامع" الذي كان سيمثل مدخلاً لتلافي ثغرات اتفاق الصخيرات، والشروع في تسويةٍ سياسيةٍ محل إجماع، أو على الأقل توافق، من معظم القوى والمكونات الاجتماعية الليبية، في مناطق الغرب والجنوب الليبيين، وربما بعض مكونات الشرق.
وسواء نجح حفتر في دخول طرابلس، والقضاء على السلطة السياسية القائمة فيها، أو ظلت العاصمة محاصرة من دون نصر أو هزيمة لأي طرف، فقد تم بالفعل تعليق المسار السياسي وتأجيل الاستحقاقات المرتبطة به. وبعد أن كانت الجهود الأممية تتركز في محاولة تأمين توافق بين مختلف القوى الداخلية، والانتقال إلى مرحلة إجراء انتخابات، وتشكيل مؤسسات سياسية تحظى بإجماع أو على الأقل توافق عام، لم يعد عملياً التفكير في أي استحقاقات مستقبلية في ظل حرب جارية وأوضاع ميدانية غير مرشّحة للثبات في المدى القريب.
ومن المنطقي تماماً أن يُفضي توقف المسار السياسي، وتغيّر المعادلات التي استند إليها سابقاً، إلى ردود فعل سلبية لدى الأطراف المتضرّرة من الوضع الجديد، أي السلطة السياسية القائمة في طرابلس، والقوى التابعة لها (أو الموالية)، إضافة إلى الأطراف الإقليمية والدولية الداعمة لها. وسيترتب على ذلك استمرار الرفض والتمنّع إزاء الحلول السياسية، مع تبادل المواقع بين الأطراف، فقد كان حفتر هو الذي يرفض الانضمام إلى المسار السياسي، ولا يقبل الانضواء تحت مظلة السلطة السياسية في طرابلس. ولديه تطلعات وأحلام تتجاوز وزارة الدفاع أو قيادة الجيش إلى قيادة الدولة كلها.
في المشهد الجديد، سيتبادل الطرفان المواقع. سيرحب حفتر بتدشين مسار سياسي جديد، يتمتع فيه بموقف تفاوضي أقوى، بينما سينتقل الرفض والتمنع إلى طرابلس. وبالفعل، أعلن فائز السراج، وكبار المسؤولين في حكومة طرابلس، أن الحوار مع حفتر قد انتهى. وكان الأخير يعاني من عدم تماسك جبهته الداخلية، سواء سياسياً مع القوى والتكوينات الاجتماعية في شرق ليبيا، أو على مستوى القيادات والكوادر العسكرية المحيطة به. وبعد التقدم الميداني الذي حققه بنقل ساحة العمليات إلى طرابلس نفسها، ستتوارى كثيراً التباينات بين صفوفه، ويقوى موقفه الداخلي، حتى لو لم يكمل التقدم إلى داخل المدينة، وتحقيق نصر كامل.
في المقابل، بدأت المنظومة الداخلية للسلطة السياسية في طرابلس تشهد تغيرات سلبية، وربما انقساما داخلها، فقد تراجع دور السراج ومكانته، لأسباب متعدّدة، أهمها ضعف إدارة الأزمة من جانبه، سواء لبطء الاستجابة وعدم استباق هجوم حفتر خلال فترة التحضير للعملية، ثم الزحف من الشرق إلى الغرب مسافة طويلة. أو لافتقاده الحلول والتصورات والبدائل الممكنة والمطلوبة، عند طرح موقف طرابلس على القوى الكبرى التي تواصل معها السراج، فبدا ضعيفاً كرجل دولة، ولا يملك حلولاً أو أفكارا لتقديمها، بوصفه قائدا في حالة حرب. بينما تعاظم دور وزير الداخلية، فتحي باشاغا، الذي تولى أيضاً وزارة الدفاع، مع انطلاق عملية حفتر ضد طرابلس. كما عادت إلى الواجهة أسماء شخصيات عسكرية وقيادات ميدانية لعبت دوراً كبيراً في إدارة العمليات العسكرية، وحققت نجاحات في محاور مهمة.
أياً كان ما ستنتهي عليه العمليات العسكرية، حكومة الوفاق مرشّحة لتغيرات مهمة على مستوى الأشخاص والمناصب، ما سينعكس على إمكانية استئناف الحوار وتفعيل المسار السياسي للملف الليبي مجدّداً.
58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.