وقابلت سهام
في كلام إنسان
منقوش ومأثر في الجدران
عن مصر وعن عمال حلوان
مظاليم العهد المعتقلين
عيطي يا بهية على القوانين
من قصيدة "أنا رحت القلعة وشفت ياسين" لأحمد فؤاد نجم وغناء الشيخ إمام (1972)
قبل الشهادة
تهدف هذه الشهادة، والتي تشكّل جزءاً صغيراً للغاية من مشروع افتراضي لكتابة تاريخ الحركة الطلابية المصرية خلال الفترة من كانون الثاني/ يناير 1972 وحتى منتصف عام 1973، إلى توضيح ملابسات اعتقال القائدة الطلابية الراحلة سهام صبري مساء الثالث من كانون الثاني/ يناير 1973 ووضع هذا الحدث ضمن سياقه التاريخي، إذ إنني الشخص الوحيد الذي كان يرافق سهام صبري عند اعتقالنا في تلك الليلة، ولذا تتوفر لي بالمقارنة بأي شخص آخر تفاصيل دقيقة عن ظروف عملية الاعتقال. وهي عملية أدّت أيضاً إلى اعتقالي لمدة ستة أشهر أمضيتها في معتقلات عديدة وانتهت بترحيلي عن مصر، التي كانت في حينه حبّي وحياتي.
من جهة أخرى، قيل إنه ورد على لسان سهام أنها قالت: "يراودني أن أؤلف كتاباً عن قصة حياتي، فسوف يكون ذلك كتاباً مهماً به عبرة، ولكني أيضاً لا أريد أن أنشر، لا أحب أبداً أن أنشر. ولكن، من المهم تسجيل قصة كفاحي فهل أدوّن منها لمحات أو فصولاً في مذكراتي؟ ولكن هذه حكاية طويلة ومتشعبة. عموماً أتركها للظروف، ولكن المؤكد أنني أبداً لن أنشر أي شيء، فهذا ليس لي". وهذا هو ما حدث بالفعل، فقد رحلت سهام بدون أن تدوّن أو تنشر قصة حياتها ومسيرتها في الكفاح السياسي البطولي والمجيد للطلبة المصريين، فلعل هذه الصفحات التالية تكون لبنة وفاء صغيرة في قصة إنسانة ضحّت بحياتها في حب مصر: مصر الوطن، ومصر الشعب الصابر الطيب الغلبان والكريم.
تتميّز هذه الشهادة، أيضاً، بأن صاحبها الذي بدأ حياته الجامعية الأولى كطالب في "كلية الاقتصاد والعلوم السياسية - جامعة القاهرة" وتمتع كغيره من عشرات آلاف الفلسطينيين منذ نكبة 1948 وحتى منتصف السبعينيات بالتعليم المجاني في الجامعات المصرية، كلفتة كرم سخية من مصر، حكومة وشعباً، تجاه شعب فلسطين، قد راكم عبر السنين خبرة نظرية وميدانية ليس في مجال كتابة التاريخ الشفوي الفلسطيني فحسب بل والتأريخ له (الهيستوريوغرافيا).
وما دفعني للكتابة عن الموضوع رغم بُعدي عن مصر، هو حجم الأخطاء الفادحة في ما ينشر عموماً من أحداث عن الحركة الطلابية المصرية في الفترة الزمنية المبحوثة، وخصوصاً في ما يتعلق بالتواريخ وتسلسل الأحداث.
تستفيد هذه الشهادة عموماً من بعض ما نشر حول الحركة الطلابية المصرية في الفترة ما بين 1971 و1973 وعن سهام صبري خصوصاً. لكن أهم المراجع التي استفدت منها كان كتاب عادل أمين المحامي بعنوان "انتفاضة الطلبة المصريين 1972-1973" في جزئه الأول الذي نشر سنة 2003، والذي يضم تقارير ووثائق جهاز مباحث أمن الدولة والنيابة العامة المصرية والخاصة بالموضوع. هذه التقارير تضمّ، رغم انحيازها الطبيعي لوجهة نظر كاتبيها، كمّاً كبيراً من المعلومات التي يُمكن بَعد تفكيكها، استخلاص وفير المعلومات الدقيقة منها، التي تسهو عنها الذاكرة، والتي هي بطبعها ذاكرة خؤونة، من خلال منهج يستطيع توظيف الوثائق التي كتبها طرف معيّن بغرض تعزيز سرديته Narrative، بشكل مخالف لهذا الغرض.
أخيراً، ورغم دقة المعلومات الواردة في هذه الشهادة عن واقعة اعتقال سهام صبري، فإن الكتابة عن السياق التاريخي لحدث ما جرى منذ ما يقارب من نصف قرن، يبقى عموماً أمراً محفوفاً بالمخاطر والأخطاء، ومن جانب آخر فإن أي شهادة تاريخية تتسم بطبيعة الحال بالذاتية، وبزاوية عرض غطتها عين وأذن الراوي، التي قد تغيب عنها زوايا أخرى. لهذا، فرغم كل المحاولات لكتابة قصة في منتهى الدقة والواقعية، فإن هذه الشهادة تشمل بالأساس تجربة الراوي الشخصية، معطوفة على ما انطمس وبهت من هذه التجربة من ذاكرة تآكلت عبر السنين. وهذا يعني بالضرورة أن يُظلم أشخاص لم تلتقط صورتهم "كاميرا" الراوي، أو كان يجهلهم فظلوا خارج دائرة الضوء. فمن هؤلاء أستميح التفهّم والمعذرة.
الحدث والسياق
سأتحدث الآن عن يوم 3 كانون الثاني/ يناير 1973، وهو اليوم الذي شهد حركة احتجاج ومظاهرات طلابية قوية في "جامعة القاهرة"، كرد فعل على عملية اعتقال واسعة لقادة وكوادر الحركة الطلابية في الجامعات المصرية. قمعت قوات الأمن المركزي التظاهرات بكلّ قسوة. وانتهى اليوم بإغلاق الجامعة (بدعوى إجازة نصف السنة) واعتقال المناضلة والقائدة الطلابية المصرية سهام صبري.
قبل ذلك بأيام، وفي ساعات مبكرة من فجر يوم الجمعة الموافق ليوم 29 كانون الأول/ ديسمبر 1972، قامت قوات الأمن المصرية (مباحث أمن الدولة)، وبعد إعلام وموافقة هيئة النيابة العامة1، بحملة مداهمة في مختلف أنحاء مصر لاعتقال عشرات من قادة وكوادر الصف الأول للحركة الطلابية في الجامعات المصرية وداعميها. توقيت الحملة جاء قبيل حلول الذكرى الأولى لأحداث كانون الثاني/ يناير 1972 المجيدة2.
قرار المداهمة وتوقيتها جاءا على ما يبدو على خلفية تقدير قوات الأمن المصري أن الطلاب سوف يقومون بعمليات احتجاج بمناسبة هذه الذكرى، والتي تأتي أيضاً قبل وقت قصير من موعد عقد الانتخابات الطلابية في الجامعات المصرية. تم اختيار يوم الجمعة بالتحديد، لتنفيذ عملية المداهمات، حيث يكون الطلاب في إجازتهم الأسبوعية.
في الدفعة الأولى من المداهمة، تم التخطيط لاعتقال خمسين قائداً وكادراً طلابياً مصرياً من جامعات وكليات ومعاهد مصرية مختلفة (جامعة القاهرة، جامعة عين شمس، جامعة الإسكندرية، المعهد العالي للتعاون الزراعي بشبرا الخيمة، جامعة المنصورة، جامعة الزقازيق، الجامعة الأميركية). كان على رأس المعتقلين الراحل أحمد عبد الله (رزة) قائد الحركة الطلابية عام 1972، إضافة إلى 17 آخرين من النشطاء الذين لديهم صلة بالحركة الطلابية، وعلى رأسهم المحامي نبيل الهلالي3 وثلاثة طلاب خريجين، وثلاثة شعراء شعبيين (أحمد فؤاد نجم وأحمد قاعود وصابر زرد) وعامل، وموظفون. كان هدف المداهمات: تجريد الجسم الطلابي من رأسه المفكر والفعّال وامتداداته المساندة.
نجا بعض "المطلوبين" من عملية المداهمة في تلك الليلة. كان من بينهم سهام صبري وهاني شكر الله (أقتصر على ذكر الاثنين لصلتهما المباشرة بما سيرد لاحقاً من أحداث، وللتفاصيل انظر كتاب عادل أمين المحامي). شاء القدر مع كثير من الحظ أن يجنّب الاثنين وآخرين مصير زملائهم الذين أصبحوا رهن الاعتقال في سجن القلعة الشهير.
كانت سهام التي ولدت في 11 حزيران/ يونيو 1951 فتاة رائعة بكل المقاييس، وكطالبة في كليه الهندسة/ جامعة القاهرة (قسم ميكانيك) كانت من أهم نشطاء "جماعة أنصار الثورة الفلسطينية" في هذه الكلية، وهي جماعة عابرة للأيديولوجيات والانتماءات السياسية، تضمّ خليطاً من الطلبة الوطنيين والتقدميين في آن (شيوعيين وناصريين وديمقراطيين ملتزمين). كان تأثير الجماعة ونفوذها يتجاوز أسوار كلية الهندسة وساحاتها ومدرّجاتها ليعم جامعة القاهرة بأسرها، بل إن نفوذ الجماعة امتدّ خارج أسوار الجامعة ليطاول جامعات أخرى وخصوصاً جامعة عين شمس.
وسهام صبري فتاة من أسرة مصرية تجري في عروقها دماء تركية أيضاً (لعل هذا يفسر بياض بشرتها ولون عينيها الأخضر)، وكان والدها سعد الدين صبري لواء في الجيش المصري، عُرف بالنزاهة وحظيَ باحترام معارفه وزملائه. وربما بسبب وضع سهام الطبقي، فإن نسيجها الأخلاقي المميز جعلها تنحاز بلا مواربة أو تحفظ إلى المظلومين والغلابة، ومنهم فقراء مصر ومشردو فلسطين، وهذا ما أمدّها بقوة أخلاقية استثنائية، شكّلت شخصيتها الكاريزماتية الآسرة.
تحوّلت سهام التي رحلت عن عالمنا الظالم في ظروف مأساوية إلى أسطورة من أساطير جيلنا. ونالت عن جدارة واقتدار وصف "زهرة الحركة الطلابية"4، جرّاء امتلاكها كل مقومات القيادة شكلاً وموضوعاً، إذ جمعت بشكل مدهش بين الرقة والصلابة5، وشجاعة منقطعة النظير، وكانت خطيبة مفوّهة لديها القدرة على إلهام الجموع وتحفيزهم على التمرد ضدّ الظلم، وهي قدرة لم يمتلك مثلها غير أحمد عبد الله، قائد الحركة الطلابية عام 1972، مع الاختلاف أن أحمد كان عادة ما يخطب بالفصحى بلكنة مصرية، وسهام بالعامية6.
أخبار المداهمة الأولى التي فاجأت الحركة الطلابية وأخذتها على حين غرة بدأت تتكشف تدريجياً عندما عاد الطلاب إلى الدوام صباح اليوم التالي للاعتقالات (السبت). سرعان ما بدأت الدعوات للاحتجاج والتحرّك تتصاعد في الجامعات والمعاهد المصرية، خصوصاً في جامعة القاهرة (التي كانت أكبر نسبة من المعتقلين منها، بحكم دورها المميز في أحداث يناير 1972).
ابتداء من يوم السبت 30 كانون الأول/ ديسمبر 1972 عُقدت عدّة مؤتمرات لمناقشة موضوع الاعتقالات وطرق مواجهته في عدة كليات من جامعة القاهرة. البداية على ما أذكر كانت مؤتمراً في كلية الآداب، تلاه في اليوم التالي (الأحد 31 كانون الأول/ ديسمبر) مؤتمران. الأول، في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، أما الثاني، فكان في كلية العلوم.
وسرعان ما استقر رأي الأغلبية على عقد اعتصام في القاعة الكبرى في جامعة القاهرة تكراراً لما جرى في كانون الثاني/ يناير 1972. حاول الطلاب بعض التجمع أمام القاعة للحصول على إذن من رئيس الجامعة لاستخدام القاعة، لكن طلبهم ووجه بالرفض. دفع هذا ببعض الطلبة إلى اقتحام القاعة بالقوة يوم الاثنين 1 كانون الثاني/ يناير 1973 وإعلان الاعتصام، كما صادر بعض الطلاب بعض آلات الطباعة من إحدى الكليات ونقلوها إلى القاعة بهدف طباعة وتوزيع المنشورات.
خلال الاعتصام الذي استمر حتى صبيحة الأربعاء 3 كانون الثاني/ يناير 1973، برزت بعض الاختلافات حول أفضل سبل مواجهة التطورات الجديدة.
على عكس أحداث وتجربة "يناير 1972" والتي كان زمام المبادرة فيها بيد الطلاب وكان محرّكها موضوع تحرير سيناء وكافة الأراضي العربية المحتلة والذي أمّن التفاف معظم الطلاب حول الحركة الطلابية ومطالبها العادلة، هيمن جو من الارتباك والحيرة وانقسام في الآراء في أوساط الطلبة.
هذه المرة، ابتدأت المواجهة والسلطة تمسك بزمام المبادرة من خلال ضربة الاعتقالات المؤلمة التي حرمت الحركة الطلابية من أفضل عقولها ونشطائها. وهي (أي السلطة) استخلصت دروس تجربة 1972 باتباعها فوراً سلسلة من الإجراءات التي بدأت باستنزاف الحركة الطلابية وقياداتها، بدءاً من تحجيم ظاهرة مجلات الحائط، وتقديم بعض الطلبة لمجالس النظام بحجة انتهاك اللوائح والقواعد المنظمة لأنشطة الطلاب السياسية. لكن الأخطر، تمثل في سماح السادات بفتح الباب لصعود التيارات الدينية الإسلامية بما في ذلك تيار الإسلام السياسي بعد عقدين من قمع سلفه عبد الناصر.
أما على صعيد الجامعات حصراً، فكان إعطاء السادات الضوء الأخضر لتشكيل وتنظيم ما سمّيَ حينها بالجماعات الإسلامية، تحت إمرة محمد عثمان إسماعيل7. قامت بعض الأجهزة داخل النظام بتأسيس هذه الجماعات والتي يجب التمييز بينها وبين التنظيم الطلابي للإخوان المسلمين - رغم بعض التداخل - من طلبة روعي فيهم أن يكونوا محافظي الميول فكرياً وبلطجية في الممارسة والأخلاق.
كان من الواضح أن السادات لجأ إلى هذه الخطوة لكي تقف هذه الجماعات في مواجهة التيارين الناصري والماركسي وحتى العناصر الليبرالية الديمقراطية التي أخذت موقفاً منتقداً ومعارضاً له منذ بداية عهده تقريباً8. في النهاية، دفع السادات نفسه، قبل مصر، ثمن هذه السياسة الخرقاء، حين افترق المساران، وصولاً لاغتياله على أيديهم. إذ شكلت سياسات السادات حبل المشنقة الذي التفّ على عنقه، كما ساهمت في تأجيج الطائفية في مصر.
صبيحة يوم الأربعاء 3 كانون الثاني/ يناير 1973 استقرّ رأي غالبية الطلبة في القاعة الكبرى على ترك الاعتصام قرب الساعة الحادية عشرة صباحاً والخروج إلى الشارع في تظاهرة كبرى تضم بضعة آلاف. اندفعت التظاهرة بقوة كالسيل الجارف من البوابة الرئيسية للجامعة باتجاه تمثال "نهضة مصر"، مختلطة بالمشاة والأتوبيسات التي تمر بالشارع، لكن ما إن ابتعدت بضع عشرات الأمتار في الشارع الرئيسي، حتى كانت قوات الأمن المركزي المتأهبة بتشكيلاتها الهندسية بانتظارها.
كانت سهام صبري على رأس التظاهرة تقودها بجرأة وشجاعة كأنها جان دارك، تُحمّس الجموع، تعطي التوجيهات وتصدح بالشعارات، ومن بين من أعرفهم كان هناك كمال خليل (هندسة القاهرة) بوجهه الطفولي، وهو المرتجل الموهوب لأفضل وأقوى شعارات الحركة الطلابية في سنوات السبعينيات.
ووجه الطلاب، ومن دون إنذار، بضرب العصي والغازات المسيلة للدموع، ورغم عدد المتظاهرين الكبير استطاعت قوات الأمن المركزي المستعدة والمدربة، بعد اشتباكات قصيرة وقاسية، من تشتيت التظاهرة واعتقال بعض الطلبة. نجحت سهام وآخرين في إقناع الطلبة بالتقهقر للعودة إلى حرم الجامعة وإغلاق أبوابها حماية لهم. قيل في كثير مما كتب عن سهام إنها أصيبت بطوبة وفقدت الوعي خلال التظاهرة، لكنهم نجحوا في إفاقتها، ولكنني، لا أستطيع أن أؤكد أو أنفي ذلك.
خلافاً لعام 1972، لم تنجح التظاهرة في التأثير على الجمهور الذي لم يستوعب لضيق الوقت القصير ما يجري رغم الهتافات ورفع الشعارات أو توزيع المنشورات. بعد انكفاء الطلبة للحرم الجامعي، جرت اشتباكات عنيفة استمرت لساعات طويلة بين الطلاب وقوات الأمن المركزي. كان الأخيران خارج السور والطلبة في الداخل.
في هذه الأثناء، كنت أنا بالذات في موقع يتوسط كليه الآداب والسور المواجه للشارع الرئيسي، وهو سور منذ زمن السلطان فؤاد، مبني من الحجارة، تعلوه قضبان حديدية ثخينة تفصل بينها الفراغات. على مدى ساعات طويلة كان هناك تبادل للتراشق بين الطلاب وقوات الأمن المركزي. الطلاب يقذفون بقطع الطوب الأحمر المتوفر بغزارة، والمنتزعة من السواتر التي أقيمت بعد حرب 1967 أمام نوافذ الدور الأرضي لكلية الآداب لتخفف من آثار غارات جوية إسرائيلية محتملة، فيُرد عليهم بالقنابل المسيلة للدموع المركبة على فوهة البنادق والمنطلقة كالصواريخ.
كانت القنابل المسيلة للدموع المستخدمة في ذلك الوقت كبيرة الحجم والوزن. في البداية كانت تقذف بشكل قوسي موزّعة سحب الغاز الخانق. لكن عندما أصيب بعض رجال الأمن المركزي بقطع الطوب، بدأوا بإطلاق القنابل من بين فتحات القضبان بشكل شبه أفقي، بهدف تحقيق إصابات مباشرة في أعلى الجسم أو في الرأس (بحكم علو الجزء الحجري من سور الجامعة). والويل كل الويل لمن تصيبه هذه القنابل المصنوعة من معدن ثقيل. أذكر أنني رأيت طالباً قربي تلقى بشكل مباشر قنبلة في رأسه، أطاحت به أرضاً والدماء تتدفق من رأسه مصاباً بجراح خطيرة.
في كثير من الأحيان كانت القنابل أو الطوب ترتد على مطلقها، نتيجة اصطدامها بالجدران أو القضبان الحديدية. كان الطلبة يقومون بقذف الحجارة ثم يحنون رؤوسهم كلما أطلق الجنود القنابل المسيلة للدموع.
استمرت الاشتباكات حتى ساعات متأخرة من الليل. قرّرت إدارة الجامعة بتوجيه من أجهزة الأمن اللجوء إلى إجراء ذكي: تقديم إجازة نصف السنة والتي كانت تبدأ بالعادة في الثلث الأخير من شهر كانون الثاني/ يناير، لتبدأ منذ صباح اليوم التالي 4 كانون الثاني/ يناير 1973. أدى القرار إلى تسرّب الطلاب، وجزء منهم يعيش في محافظات مختلفة، بالعودة إلى مدنهم وقراهم. ولم يبق من الطلاب في داخل الحرم الجامعي سوى بضع مئات.
على ضوء ذلك، اتخذ هاني شكر الله وسهام صبري قرار الانسحاب إلى المدينة الجامعية لمواصلة الحراك، رغم معارضة البعض، الذين رأوا أن الموضوع قد حُسم وأن لا فائدة ترجى من هذا القرار. توجّه من أيّد هذا القرار، من خلال مدخل باب كلية الاقتصاد والعلوم السياسية إلى المدينة الجامعية من خلال مدخلها الرئيسي (يفصل المدخلين شارع ومسافة 70 متراً). تجمّع الطلبة والطالبات المنسحبون في قاعة تقع أسفل الطابق الأرضي لإحدى بنايات المدينة الجامعية، وكان معهم آلة طباعة اصطحبوها من الجامعة بنية طباعة وتوزيع المنشورات. كان غالبية الطلبة القاطنين في المدينة الجامعية والذين لم يتركوها بعد، متعاطفين مع "الضيوف".
طرحت سهام فكرة تفريغ طابق من المبنى للطالبات حصراً، لمنع الأقاويل، وهذا ما تم فعلاً. في هذه الأثناء، انسحبت قوات الأمن المركزي من محيط جامعة القاهرة، ولكن ظل هناك رجال أمن سريون بملابس مدنية حول مدخل المدينة الجامعية الرئيسية الذي تجمهر غربه مناصرون للطلبة من أبناء حي بين السرايات، وبعضهم على ما أذكر بالبيجامات. كان جزء من أبناء الحي على علاقة بجماعة أنصار الثورة الفلسطينية التي قامت ضمن واحد من أنشطتها العديدة بتعليم أطفالهم تطوعاً.
على الأغلب جاء انسحاب القوات لمنع حدوث احتكاك مع أهل الحي، يؤدي إلى تفاقم الوضع ويعطي الطلبة دفعة قوة جديدة. بدا واضحاً بعد حين أن تسرّب الطلاب المستمر جعل من الحاضرين مجرد أقلية صغيرة، يسهل التعامل معها، فضلاً عن الشعور بوجود مخبرين بين البقية الباقية.
تلا ذلك نقاش، كان من بين من ساهم فيه ووجّهه هاني وسهام. خلصت المداولات إلى إخلاء المكان كلياً. تقرّر تهريب الطالبات من المدينة الجامعية من خلال سور المدينة الجامعية الملاصق لحي "بين السرايات" الذي تجمّع بعض أبنائه كما قلنا دعماً للطلاب. تم رفع الطالبات إلى أعلى السور وكان هناك من الجهة الأخرى للسور شبان ورجال ونساء من حي بين السرايات وطلاب آخرين أعانوهم على النزول ومن ثم الانسحاب من المكان بسلام. لكن واجهتنا مشكلة سهام، حين قالت، إنها لا تستطيع بسبب وزنها وجسمها اعتلاء السور (الواقع أنها أخفت علينا السبب الحقيقي والذي سيتضح بعد حين).
كقائدة طلابية فذة، كان من الضروري جداً أن يتم تهريب سهام صبري لتظلّ طليقة، تقود حركة طلابية كانت بأمس الحاجة إليها، نتيجة عمليات المداهمة التي حرمتها من خيرة عقولها ونشطائها. كان ما يزال هناك كثير من النشطاء خارج شبكة الاعتقال، لكن لم يكن لأحد، في جامعة القاهرة، كاريزما وشعبية سهام، ولا نفس القدرة في التأثير على شبان وشابات القاعدة الطلابية.
وقع اختيار هاني شكر الله عليَّ لمرافقة سهام إلى مكان آمن غير معروف9. لماذا وقع اختياره وبموافقة سهام عليَّ؟ من جانب كنت معروفاً لديه وقلائل آخرين في الحركة الطلابية كطالب موثوق به وجريء، لديه، كفلسطيني ملتزم، بعض الحسّ الأمني؛ من جانب آخر كانت سهام تعرفني، رغم أنها لم تكن صديقتي على الإطلاق، من خلال حدث فارق.
في إحدى المناسبات خلال عام 1972 (للأسف لا أذكر اليوم أو الشهر بالضبط) انقضّ بلطجية الجماعة الإسلامية في كلية الهندسة، والتي تأسّست حديثاً، على معرض لجماعة أنصار الثورة الفلسطينية في الكلية. هاجم بلطجية الجماعة طلبة "جماعة أنصار الثورة الفلسطينية" وكلّ من وقف أمامهم.
كان أسلوبهم، وهو أسلوب تعلّموه من خلال معسكرات للتدريب، يعتمد أسلوب "الصدمة" الماحقة حيث ينقضون مرة واحدة وبشكل منسق، جارفين كل من يقف أمامهم بالضرب الوحشي، مستخدمين العصي والجنازير (وهي ظاهرة لم تعرفها الجامعات المصرية من قبل) ومهددين وملوّحين بـ"المطاوي". رغم عدد الطلبة الوطنيين والتقدميين الأكبر، سرعان ما انهزم العقل والفكر أمام سطوة العضلات.
ظلّت سهام صامدة لوحدها محاطة بالبلطجية الفاشيين، يهددونها ويشتمونها بأقذع الشتائم. وقفت سهام منتصبة القامة، صلبة كالصخرة الشامخة، تبتسم بهدوء غير عابئة بهم، وترمقهم بدونية واحتقار. في هذه اللحظة الصعبة، لم يبق سوى طالبين فلسطينييْن للدفاع عنها، كانا قد حضرا بالصدفة إلى كلية الهندسة لمشاهدة المعرض. كنت أحد الاثنين، أما الثاني فقد كان طالباً فلسطينياً من غزة اسمه مجاهد شراب.
أبدى مجاهد شجاعة متناهية النظير، وقد نال نتيجة دفاعه عن سهام الكثير من الضرب المبرح حتى أوقعوه أرضاً، موشوماً بالرضوض والكدمات.
بعد أن تقرّر تهريب سهام، خرجتُ معها من باب المدينة الجامعية، وعملنا ما بوسعنا للاندساس بين الطلاب الخارجين من المدينة للتمويه، واتجهنا إلى موقف للأوتوبيسات أمام حديقة الأورمان (مواجه لكلية الفنون الجميلة). ما فهمناه لاحقاً من تطوّر الأحداث أن المخبرين استطاعوا تحديد سهام. لكن لحسن الحظ ما إن وصلنا إلى الموقف حتى وصل أوتوبيس، قبل أن يتمكنوا من إلقاء القبض علينا.
توقّف الأوتوبيس، وهو هنغاري الصنع، أزرق اللون، ومتجه نحو ميدان الدقي، فصعدنا إليه. أغلق السائق الأبواب وتحرّك الأوتوبيس الذي كان على غير العادة غير مكتظ بالركاب، اعتقدنا أننا نجونا فتنفسنا الصعداء. لكن بعد بضعة عشرات الأمتار فقط، لاحظنا سيارة من طراز نصر تلاحق الأوتوبيس، كان فيها ثلاثة اشخاص بينهم ضابط إضافة إلى السائق. فتحوا نوافذ السيارة وطالبوا سائق الأوتوبيس بالوقوف.
كنت في وضع أستطيع فيه تمييز ملامح السائق، إذ كنت واقفاً إلى يمينه في حين كانت سهام متأخرة عني بضع خطوات. أستطيع أن أجزم أن سائق الأوتوبيس كان مدركاً تماماً لما يحدث، إذ كانت الاشتباكات التي امتدت لساعات طويلة بين الطلبة وقوات الأمن المركزي على مرأى جميع من مرّوا بالشوارع المحيطة بالجامعة في ذلك اليوم.
تجاهل السائق الشجاع أمر الوقوف، وأبدى إشارات "استعباط" توحي بأنه لم يفهم من هم ولا ما يريدون، لدرجة أن أحداً منهم فقد أعصابه فأخرج مسدسه من نافذة السيارة ولوّح به باتجاهه، وبدأ سائق السيارة "يكسر" نحو الأوتوبيس. على أية حال، واصل سائق الأوتوبيس قيادة حافلته حتى المحطة التالية، وما إن توقف، حتى وضعوا السيارة أمام الأوتوبيس لمنعها من التحرك. وهنا نزل ثلاثة من السيارة، اندفع اثنان منهم داخل الأوتوبيس من الباب الأمامي صائحين: "نشالين نشالين، دول حرامية نشالين"، فصحت وسهام بما معناه: "لا حرامية ولا يحزنون، نحن طلبة شرفاء ووطنيون وهم يريدون اعتقالنا".
حتى في هذه اللحظة الصعبة أبدى السائق "حركة جدعنة" أخرى ففتح باب الأوتوبيس الخلفي حتى نتمكن من الهروب (بسبب الخوف تسمر بقية الركاب في مقاعدهم مذعورين ولم يخاطر أحد منهم لا بالوقوف أو النزول). بحكم موقعها في الأوتوبيس، نزلت سهام من عتبة باب الأوتوبيس الخلفي وأنا وراءها. كان بانتظارنا أسفل الباب شخص ثالث استطاع الإمساك بيد سهام لاعتقالها. لكنني وبسرعة فاجأته وحرّرت سهام من قبضته. في هذه اللحظة انضم إليه الاثنان اللذان صعدا سابقاً إلى الأوتوبيس، فأصبحنا شبه محاصرين.
في ذلك الوقت كان عمري 21 سنة، رأسي حامية جداً. شجاعة أم تهور؟ خضت والثلاثة عراكاً عنيفاً، صارخاً بسهام أن تستغل الموقف لتهرب. لكن لحيرتي الشديدة لم تبد سهام أي حركة. في هذه الأثناء نفد صبر رجال الأمن الثلاثة، (وهم للحق كانوا صبورين) ما دفع باثنين منهم في نهاية الأمر إلى إشهار نوع من المطاوي، كان يسمى "قرن غزال"، لها حلقة تفتحها ونصلها طويل نسبياً. حاولت تجنب المطوى ونحن نتبادل اللكمات. وفي هذه اللحظات الحرجة قالت سهام، التي حتى هذه اللحظة لا أفهم سبب بقائها وعدم هروبها "يا صالح خلاص، ما فيش فايدة، أنا مقدرش أهرب، أنا حامل!".
نزل كلامها عليَّ كالصدمة، فأنا لم أكن أعرف بتاتاً أنها حبلى10. بصورة درامية حسمت سهام الموضوع بقولها هذا، فتوقفت تماماً عن المقاومة واستسلمت. قيّدنا رجال الأمن، وأخذوا كلّ واحد منا في طريق. كانت تلك آخر مرة في حياتي أرى سهام.
منذ ذلك الحين أسائل نفسي: هل يمكن لسهام التي خاضت مظاهرات ذلك اليوم، تقود وتهتف وتقاتل، مصطدمة بحشود الطلاب ورجال الأمن المركزي، أن لا تستطيع الهرب؟
وداعاً سهام.
* باحث فلسطيني
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش
1 في ذلك الوقت تمسّك السادات بالإجراءات القانونية الشكلية طبعاً، وإلا فما معنى أن يعتقل خيرة الطلبة الوطنيين؟
2 في يناير 1972 شهدت كافة الجامعات المصرية حركات احتجاج طلابية واسعة وعارمة. كان السادات قد وعد في خطاب له عام 1971 بعمل عسكري شامل ضد إسرائيل قبل نهاية هذا العام، إن لم يتم التوصل إلى حل سياسي ("عام الحسم"). انتظر الجميع ذلك بفارغ الصبر حتى الساعات واللحظات الأخيرة من يوم 31 ديسمبر، وعندما دقت عقارب الساعة معلنة نهاية السنة دون أي عمل عسكري مصري، ساد شعور بالخيبة والغضب. برر السادات تقاعسه بـ"الضباب" (أي أن الحرب الباكستانية الهندية التي اندلعت آنذاك وخطفت الأضواء خلق "ضباب" إعلامي، اعاق قيام مصر بعمل عسكري). اندلعت موجة احتجاج في الجامعات المصرية تحول فيها "الضباب" إلى موضوع سخرية ونكات. سرعان ما تحولت الموجة إلى حركة احتجاج واسعة، ابتدأت بمئات مجلات الحائط والاجتماعات في الجامعات المصرية، اعقبتها مظاهرات داخل وخارج الجامعات. لكن نقطة الذروة تمثلت في الاعتصام الطلابي الذي جرى في القاعة الكبرى بجامعة القاهرة والذي ضم كل كليات الجامعة داخل وخارج حرم الجامعة الرئيسي. انتخب الاعتصام وبالانتخاب الديمقراطي المباشر لجنة وطنية عليا للطلبة بقيادة أحمد عبد الله (رزة) أدارت الاعتصام والحركة بكفاءة منقطعة النظير. كانت الحركة مذهله في قوتها وأهميتها واستجابة الشارع المصري لها، خصوصاً في ظل تردد السادات في قمع الحركة. لم يكن السادات يحظى بعد بـ"شرعية العبور"، كما أن رفعه لشعار "دولة المؤسسات... وسيادة القانون" ليميز نفسه عن عهد عبد الناصر -والذي اتسم بالقمع الشديد للمعارضة أياً كان طيفها السياسي- فرمل وكبل من هامش مناورة النظام في قمع الحركة الطلابية والعمالية (هالة مصطفى، ص148). لكن صبر النظام نفذ، وبعد حصار للجامعة، داهمت قوات الأمن المركزي اعتصام جامعة القاهرة في الساعات الأولى من فجر 24 يناير 1972 في عملية مخطط لها (كان معظم المعتصمين يتواجدون خلال النهار ويذهبون الى بيوتهم ليلاً) واعتقلت ما يزيد عن 650 طالباً كان من بينهم ما لا يقل عن 60 طالباً عربياً (كنت واحداً منهم) واقتادتهم إلى ثكنات الأمن المركزي في شاحنات كبيرة مفتوحة. ومن هناك تقرر بعد يوم أو اثنين توزيع الطلاب على المعتقلات. الشاحنات الأولى أفرغت حمولتها في سجن القلعة في ساعات الفجر. من بينهم سهام صبري، ومحمد الجميعي، وشوقي الكردي وأحمد بهاء شعبان (كان هذا مصدر قصيدة أحمد فؤاد نجم "أنا رحت القلعة وشفت ياسين، حواليه العسكر والزنازين"). لكن بسبب العدد الكبير للطلبة المعتقلين تم توزيع الأغلبية بما فيهم "رزة" على معهد أمناء الشرطة في حلوان (تم إعطاء أمناء الشرطة إجازة على عجل لتفريغ المكان). اعتقال الطلبة أدى إلى اعتصام ضخم في ميدان التحرير (إذ كانت الجامعات قد أغلقت) وأدى هذا الاعتصام الطلابي إلى تضامن جماهيري كبير دفع بالنظام إلى التراجع وإطلاق سراح كافة الطلبة المعتقلين "دون محاكمة" في غضون عشرة أيام.
3 المحامي نبيل الهلالي الذي عايشته في سجن باب اللوق في مطلع ربيع 1973، هو ابن نجيب باشا الهلالي آخر رئيس وزراء مصري في عهد الملكية، وكان الهلالي باشا معروف بطهارة اليد والكفاءة، وقد جاء به الملك فاروق قبل أشهر من ثورة يوليو 1952 كورقة أخيرة لإنقاذ الوضع، لكن الخطوة جاءت متأخرة. تمتع الهلالي الابن والمحامي بالزهد والتواضع الجم، وكرّس حياته لمصر وخبرته القانونية الغنية للدفاع عن أبنائها. وهو استطاع تدريب جيل من المحامين اليساريين الشجعان.
4 "زهرة الحركة الطلابية" كان واحداً من الأوصاف التي أطلقت على سهام صبري، ولا أعرف أول من أطلقه عليها. لكن طالما كانت سهام تستدعي للذهن القائدة اليسارية الفذة خلال الحرب الأهلية الإسبانية في الثلاثينيات Isidora Dolores Ibárruri Gómez صاحبة الشعار الشهير "لن يمروا" (أي لن يعبر الفاشيون الإسبان بقيادة الجنرال فرانكو مدينة مدريد) والتي لقبت بالباسيوناريا Pasionaria وهو اسم زهرة جميلة تنمو في حوض المتوسط passion flower. هل لهذا علاقة بتسمية سهام بالزهرة؟
5 عماد عطية منشور على فيسبوك بتاريخ 11 حزيران 2018
6 هاني شكرالله منشور على فيسبوك بتاريخ 11 حزيران 2018
7 مواليد عام 1930، محامي خريج كلية حقوق القاهرة. لعب دوراً مهماً في التأسيس لصعود الإسلام السياسي المتطرف والإرهاب في مصر، وهو شخص محافظ وإسلامي الميول من الناحية الفكرية وشديد العداء لليسار (هناك تقارير غير مؤكدة تقول بأنه كان عضوا سرياً ومهماً في جماعة الإخوان المسلمين). الانتهازية وإتقان النفاق ركيزتان للتسلق في أنظمة يحكمها قادة نرجسيون، وهو ما سمح له بتسلق سلم المناصب الحكومية بسرعة. في عام 1964 وفي سن الرابعة والثلاثين أصبح عضو بمجلس الأمة. تدرج في عدة مناصب في الاتحاد الاشتراكي العربي في عهد عبد الناصر والسادات، ثم تسلم منصب محافظ أسوان ثم محافظ أسيوط حيث لعب دوراً اساسياً بتأجيج الصراع الطائفي المفتعل في المحافظة. إظهاره الولاء الأعمى لأنور السادات في الفترة الحرجة التي أعقبت وفاة عبد الناصر، جعلته مقرباً ومسموعاً منه. وهو الذي أشار على السادات وبنصيحة عثمان أحمد عثمان (شركة المقاولين العرب وصهر السادات) ويوسف مكاوي دعم نشاط الجماعات الدينية لمواجهة القوى الوطنية واليسارية، واستخدم من خلال منصبه أموال الاتحاد الاشتراكي في تمويل وتدريب هذه الجماعات بدعم أو غض طرف من أجهزة امنية. وفي حين نجحت هذه الاستراتيجية في إضعاف قوى اليسار في الجامعات المصرية لصالح النظام، فإنها أدت إلى فتح الباب على مصراعيه للفتنة الطائفية وإلى خلق التربة المناسبة لبروز جماعات متطرفة عصفت بمصر.
8 هالة مصطفى، الدولة والحركات الإسلامية المعارضة بين المهادنة والمواجهة في عهدي السادات ومبارك (القاهرة، مركز المحروسة، 1995)، ص 150.
9 يقول هاني شكر الله في بوست له على الفيسبوك بتاريخ 11 يونيو 2018 (وهو البوست الذي حفزني لكتابة هذه الشهادة) أنه نادم على أنه اختارني لمهمة تهريب وتأمين سهام والتي تسببت باعتقالي لمدة ستة شهور ثم ترحيلي عن مصر ومنعي من زيارتها لمدة 21 عام! لكن رغم المعاناة الشديدة، فقد كانت هذه من أجمل أيام حياتي، إذ وفرت لي فرصة التواجد خلف القضبان مع خيرة أبناء مصر ومثقفيها، وكان لهذه التجربة أثر كبير في نضجي المعرفي والسياسي والإنساني. كم أنا شاكر لله أن زنازين وعنابر السجن جمعتني تحت سقف واحد وفي فترات مختلفة برجال عظام ومنهم على سبيل المثال لا الحصر الراحل أحمد عبد الله، وحسام سعد الدين، والراحل نبيل الهلالي، والراحل عيداروس القصير، وعصام الشهاوي، وكمال خليل، والراحل تيمور الملاوني، والراحل محمد الدردير، ومحمد نعمان، والشاعر محمد سيف، وأشرف صادق، وخليل فاضل، والإسلامي عصام الغزالي.
10 فوجئ هاني شكر الله، وهو أحد اصدقائها المقربين عندما أخبرته بموضوع الحمل في يناير 2019، وقال إنه لم يعرف بذلك حينئذ، وأن هذه أول مرة يسمع بها بذلك. بقاء حمل سهام سراً مجهولاً أمر غريب إلى حد ما، أقله بسبب ما كان يبدو عليها بوضوح من وزن زائد وتثاقل، بما يتناقض مع سهام الرشيقة التي كنا نعرفها. في القناطر الخيرية (أبريل 1973) علمت للمرة الأولى أنها كانت متزوجة من أحد شبان الحركة الطلابية (محمد توفيق، طالب من كلية الهندسة) وهذا الزواج بحد ذاته، رغم أنه لم يستمر، كان دليلاً آخراً، على شخصية سهام الإنسان.