من حكايات الحصار

15 ابريل 2017
+ الخط -

عشت هذه الأيام القاسية في مدينة داريا. عانينا الأمرين، وكانت الأخلاق تسمو في أناس وتنحدر في أناس آخرين... الأيام السوداء التي قضيناها أظهرت جشع اللئيم وكرم الطيب. وهذه قصة مختزلة من الحياة التي عشناها.

في إحدى ليالي الشتاء الباردة، كان الهدوء يعم أرجاء البلدة (م) والظلام يغطي معالمها... الأشجار سوداء تظهر كالأشباح، تترنح قليلاً مع لفحة هواء جافة باردة، وتصدر أصواتاً مرعبة، أما البيوت فظهرت كأكوام سوداء تقف بلا حراك... تتسلل من بعض نوافذها أضواء خجولة باهتة، وكانت السماء ملبدة بغيوم الشتاء الداكنة وغيوم دخان المدافئ شديدة السواد. 

مع هذا الهدوء كله، كنت تسمع بين الفينة والأخرى وقع أقدام تسير ببطء وثقل مصدرة صوت (دب... دب...) كان هذا الصوت يضيف إلى جو الهدوء الكئيب كآبة أخرى، فقد كان كهل خمسيني تلحف بطانية سميكة كانت أشبه ببطانية عسكرية، يسير في هذا الظلام ويحمل معه كيساً صغيراً، وضع فيه قليلاً من الطعام، وبدا عليه أثر التعب والإعياء والبرد، لقد ازرق وجهه وتضخم أنفه الأفطس.

أخذ يسير إلى نهاية الطريق، ثم انعطف يميناً وصعد سلماً صغيراً وطرق عدة طرقات، وفتح له بسرعة. داخل البيت كان هناك أطفال ثلاثة، يارا وأحمد وعدنان، وقد نام أحمد وعدنان وبقيت يارا مستيقظة تنتظر جدها الذي ذهب منذ الصباح ليبحث عن الطعام للأطفال الجياع.

كانت البلدة (م) محاصرة منذ أشهر، ورحلة البحث عن لقمة العيش كانت همّ جميع ساكنيها، وقد كان الشيخ عطا هو كفيل أحفاده الصغار بعد أن قضى ابنه وزوجته بالقصف منذ سنوات. كانت يارا قد بلغت السادسة من عمرها وهي الأخت الكبرى لشقيقيها.

جلس الشيخ عطا مسنِداً رأسه إلى الحائط وأخرج من الكيس عشر قطع من الخبز اليابس، وهمس ليارا بصوت مبحوح متعب: 

- يا صغيرتي خذي هذه القطع وضعيها في الخزانة. لقد رزقنا طعام يومين. 

تناولت يارا الكيس من جدها وابتسمت وهزت رأسها مشيرة بـ(نعم). 

كرر الجد:

- هذا طعام يومين، لا تفرطي فيه، قد لا نجد غيره...  وركضت يارا نحو المطبخ لتنفذ أمر جدها.

                         *  *  *

في الصباح الباكر استيقظ الأطفال وكانوا جائعين جداً، وكانت يارا وجدّها ما زالا نائمين. أخذ أحمد قطع الخبز من الخزانة ونظر إليها عدنان بدهشة، وقال:

 - إنها كثيرة. لمن كل هذا الخبز؟ 

- ردّ أحمد: أجل أنا تكفيني واحدة. وأنت؟؟

 - واحدة أيضاً. 

- إذاً واحدة لجدي وأخرى ليارا. مممم واحدة لجارنا إسماعيل وواحدة لابنه الصغير وقطعتان للعم حازم، فهو يحب الطعام جداً ونضع الباقي للعشاء.

- اتفقنا.

وزع الطفلان القطع وكانا مسرورين جداً، وعندما استيقظ الجد ويارا، أخبرهما الصغار بعملهم. قالت يارا: يا له من عمل رائع!

عصف الحزن في قلب الجد وفكره، وأسرّها في نفسه ولم يبدها للأطفال الذين كانوا سعداء بعملهم الرائع، وكانوا يشعرون بشعور الكبار الذين يعرفون قيمة الفرحة والعطاء، وإذا بالباب يطرق.

 - من هناك يا يارا؟ صاح الجد. 

- إنهم الجيران يا جدي وقد جلبوا لنا عشر قطع من الخبز الطازج.

دلالات
18636436-6302-4AE9-AA72-3D63D6A623B1
18636436-6302-4AE9-AA72-3D63D6A623B1
شمس الدين مطعون

ناشط وصحافي من مواليد دمشق داريا 1994. يقيم في إدلب بعد التهجير القسري، ونقل أهالي داريا إلى الشمال السوري. يعمل في عدة مواقع صحفية.

شمس الدين مطعون