بدد نظام بشار الأسد، وحلفاؤه الروس والإيرانيون، على مدى سنوات كل جهود المجتمع الدولي من أجل التوصل لتسوية تنقذ ما يمكن إنقاذه من البلاد، التي عرّضتها الحرب المفتوحة التي تُشن على السوريين للدمار، والتشظي، وتنذر بما هو أخطر على مستقبل الشرق الأوسط برمته.
في منتصف عام 2012 بدأ المجتمع الدولي تحركاً جدياً من أجل التوصل لحل سياسي يرضي السوريين، وينهي عقوداً من حكم فردي استبدادي بدأ يترسخ إثر انقلاب عسكري في الثامن من مارس/آذار 1963. وتمخضت جهود المبعوث الأممي في حينه، كوفي عنان عن بيان حظي بتأييد مجلس الأمن الدولي، وبات المرجعية الأساس لدى المعارضة للحل في سورية، ودعا صراحة إلى نقل صلاحيات رئيس الجمهورية إلى هيئة حكم تدير مرحلة انتقالية تنتهي بانتخابات وفق دستور جديد. لكن النظام رفض البيان، كما أعاق قبله جهود الجامعة العربية، فمضى في طريق الحسم العسكري الذي أدى إلى مقتل واعتقال وتهجير ملايين السوريين، وتعريض بلادهم لمخاطر التقسيم، وشرّع أبوابها لمليشيات إيرانية تعمل في سياق مشروع طائفي غايته تهجير السوريين.
ونص البيان الشهير والمعروف بـ"بيان جنيف1" على سيادة "الجمهورية العربية السورية" واستقلالها، ووحدتها الوطنية، وسلامة أراضيها، ووضع حد للعنف، ولانتهاكات حقوق الإنسان، وتيسير بدء عملية سياسية، بقيادة سورية، تفضي إلى عملية انتقالية تلبي التطلعات المشروعة للشعب السوري وتمكنه من أن يحدد مستقبله بصورة مستقلة وديمقراطية. كما نص البيان على "إقامة هيئة حكم انتقالية، باستطاعتها أن تُهيّئ بيئة محايدة تتحرك في ظلها العملية الانتقالية"، مشيراً إلى أن هيئة الحكم الانتقالية تمارس كامل السلطات التنفيذية، ويمكن أن تضم أعضاء من الحكومة الحالية والمعارضة ومن المجموعات الأخرى، ويجب أن تُشكّل على أساس الموافقة المتبادلة. ودعا إلى إطلاق سراح المعتقلين واحترام حق التظاهر السلمي، بالإضافة إلى بنود أخرى، من شأنها التحوّل بسورية إلى أن "تكون ديمقراطية وتعددية بحق"، مع الحفاظ على مؤسسات الدولة القائمة. وولدت آمال عريضة نتيجة بيان جنيف في إنهاء الصراع في سورية، والذي كان من الواضح أن النظام يدفع باتجاه تسعيره أكثر، مستفيداً من دعم روسي، وإيراني كبير، وتراخ أميركي كان بمثابة ضوء أخضر لممارسة المزيد من القمع على السوريين. وأطاح النظام بآمال السوريين، واستمر بنهجه العسكري، وهو ما أدى إلى عسكرة الصراع بشكل كبير. ولم يجد المعارضون بداً من الدفاع عن أنفسهم في وجه آلة قمع غايتها وأد الثورة، ضاربة بعرض الحائط جهود المجتمع الدولي.
لم ينتظر كوفي عنان طويلاً، وأعلن مطلع أغسطس/آب 2012، يأسه، وعدم رغبته في مواصلة مهمته في سورية بسبب عدم حصوله على الدعم المطلوب من المجتمع الدولي، مشيراً إلى أن "تصاعد العسكرة على الأرض، وانعدام الإجماع في مجلس الأمن الدولي، غيرا دوري بشكل جذري"، معرباً عن اعتقاده أن بشار الأسد سيضطر للرحيل "عاجلاً أم آجلاً". وتولى الدبلوماسي الجزائري، الأخضر الإبراهيمي مهمة سلفه كوفي عنان، بعد أيام من استقالة الأخير، في ظروف بالغة التعقيد، إذ بدأ الصراع في سورية يتصاعد، ما يعكس عدم رغبة تسهيل مهام الإبراهيمي، صاحب التجربة العريضة في العمل الدبلوماسي. وكان عام 2013 أكثر دموية عما سبقه، إذ ارتكب النظام مجزرة الكيماوي في منتصفه، والتي أدت إلى مقتل آلاف المدنيين في محيط دمشق، جلهم من الأطفال والنساء. وإثر حدوث المجزرة، صدر القرار الدولي 2118، والخاص بنزع الأسلحة الكماوية التي يمتلكها النظام. وجاء القرار داعماً لبيان جنيف، إذ أكد مجلس الأمن الدولي أنه "يؤيد تأييداً تاماً بيان جنيف المؤرخ 30 يناير/حزيران 2012 (المرفق الثاني)، الذي يحدد عدداً من الخطوات الرئيسية، بدءاً بإنشاء هيئة حكم انتقالية تمارس كامل الصلاحيات التنفيذية، ويمكن أن تضم أعضاء من الحكومة الحالية والمعارضة ومن المجموعات الأخرى، وتُشكل على أساس التوافق"، وفق نص القرار. كما دعا المجلس إلى القيام "في أبكر وقت ممكن، بعقد مؤتمر دولي بشأن سورية من أجل تنفيذ بيان جنيف"، داعياً "جميع الأطراف السورية إلى المشاركة بجدية، وعلى نحو بناء في مؤتمر جنيف بشأن سورية"، مشدداً "على ضرورة أن تمثل هذه الأطراف شعب سورية تمثيلاً كاملاً، وأن تلتزم بتنفيذ بيان جنيف، وبتحقيق الاستقرار والمصالحة"، وفق القرار.
كما شهد ذاك العام بدء تدخل "حزب الله" في سورية، إثر ظهور مؤشرات على قرب سقوط النظام تحت ضربات الجيش السوري الحر، وهو ما صعّب من مهام الإبراهيمي الذي بذل جهوداً من أجل جمع المعارضة والنظام على طاولة تفاوض واضحة من أجل تنفيذ بيان جنيف، والبدء في مرحلة انتقالية في البلاد. وانعقد مؤتمر "جنيف2" في بدايات عام 2014، وسط تحذيرات من وزير الخارجية الأميركي السابق، جون كيري من اقتراب سورية أكثر من حافة الهاوية، والفوضى. لكن المؤتمر فشل بشكل مريع، إذ رفض وفد النظام مناقشة الانتقال السياسي في البلاد وفق بيان "جنيف1"، وأصر على أن محاربة الإرهاب تتقدم على أي شيء آخر، وأن مسألة رحيل الأسد عن السلطة ليست محلاً للتفاوض، بينما أكد وفد المعارضة أنه يجب ألا يكون للأسد أي دور في هيئة الحكم الانتقالي التي نص عليها بيان جنيف. وتجدد الصراع في سورية إثر فشل المؤتمر، وغاصت البلاد في الدماء، وبدأ يسطع نجم تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش)، وبدأ مطلع عام 2014 تمدداً في سورية فرض خلاله سيطرة كاملة على نحو نصف مساحة البلاد. وتمادى النظام في تحديه للمجتمع الدولي، عسكرياً وسياسياً، وقام بإجراء انتخابات رئاسية ونيابية وفق دستور فرضه على السوريين في تأكيد على أنه "أغلق أبواب السياسة"، وأنه ليس لدى الأسد نيّة للتخلي عن السلطة.
وتقدم الإبراهيمي باعتذار إلى السوريين بسبب فشل مهمته، معلناً استقالته، في مايو/أيار 2014، مفسحاً المجال أمام موفد أممي آخر، هو ستيفان دي ميستورا، الذي تولى مهامه في سبتمبر/أيلول من ذاك العام. في عام 2015، بدأ النظام يترنح تحت ضربات المعارضة السورية المسلحة، وكان من الواضح أنه بات على حافة سقوط محقق، فتدخلت روسيا في أواخر سبتمبر لتبدأ البلاد مرحلة جديدة، استدعت قراراً دولياً آخر هو 2254، والذي نص على بدء محادثات السلام بسورية، وتشكيل هيئة حكم ذات مصداقية، تشمل الجميع وغير طائفية، واعتماد مسار صياغة دستور جديد لسورية. وتشكلت أواخر 2015 الهيئة العليا للمفاوضات، التابعة للمعارضة، استعداداً لمفاوضات "جنيف3"، التي بدأت أواخر يناير/كانون الثاني من 2016، وسط انخفاض الآمال بتحقيق نتائج. وأصرت المعارضة على تنفيذ الشق الإنساني من القرار 2254، لجهة فك الحصار عن المناطق المحاصرة، وإطلاق سراح المعتقلين، وتسهيل دخول مساعدات إنسانية للمحاصرين، لكن النظام ماطل في تنفيذ القرار الدولي، وأصر على عدم مناقشة مسألة الانتقال السياسي، فضلاً عن قيامه بتسميم أجواء التفاوض بارتكاب المجازر، ما دفع المعارضة إلى تعليق المشاركة في "جنيف3" في أبريل/نيسان من العام الماضي. وحاول الروس خلق مسارات تفاوض جديدة مع الفصائل المسلحة، إثر خروجها من حلب أواخر عام 2016، إلا أن جهودها باءت بالفشل، خصوصاً أن موسكو لم تحاول ردم هوة عدم الثقة مع المعارضة، إذ بقيت مصرة على أن الأسد جزء من الحل. وتنعقد الجولة الرابعة من مفاوضات جنيف وسط ظروف وأجواء غير بعيدة عن أجواء الجولة السابقة.