كنت أشاهد بعض الأفلام الوثائقية عن الحضارة السومرية التي تعتبر أقدم حضارة معروفة في التاريخ، أكثر ما يناقش حول السومريين هو الميثولوجيا السومرية التي قد تكون أبرز العجائب والغرائب لدى تلك الحضارة، خصوصا أن كثيراً من الباحثين تعجبهم فكرة أن تلك الميثولوجيا ناتجة عن تواصل كائنات فضائية عملاقة ومتقدمة "الآلهة" مع البشر.
بعيداً عن الأساطير، فكتاباتهم ورسوماتهم تشير إلى كم كبير من المعرفة وتطور مشهود في العلوم والتقنية، فهم مثلا يعرفون كوكب بلوتو قبل آلاف السنين بينما معرفتنا فيه اليوم بحدود الثمانين سنة، عدا عن كثير من المعدات والأدوات المتطورة جدا التي استخدموها في الحياة العادية والعسكرية، مما قد نسجله اليوم اختراعات باسم الحضارة الغربية ذات العمر القصير.
الحضارة السومرية وأخلافها من الآشوريين والبابليين ليست فريدة بأسرارها وغرائبها تلك، فالحضارة الفرعونية لديها أيضا من الشواهد ما يحيّر العقل البشري وأدواته البحثية الحالية المتطورة جدا، كذلك هناك بعض الإشارات التاريخية إلى وجود مدن أو حضارات متقدمة جدا اندثرت أو غرقت أو سحقتها التغيّرات المناخية والعوامل الطبيعية التي اجتاحتها دون سابق إنذار، ومنها مثلا الغنية عن الذكر حضارة أطلاطنس التي يعتقد أن ما تبقى منها هو الآن في أعماق المحيط الأطلسي.
إلا أن السر الأكبر من كل تلك الأسرار والسؤال المحير أكثر من أي سؤال، هو كيف انهارت تلك الحضارات فجأة من دون أن يخلفها أحد في المعرفة والتقنية حتى لتشعر أن التاريخ المعرفي البشري توقف بعد انهيار تلك الحضارات وعاد إلى نقطة الصفر، لينطلق البشر في رحلة استكشاف أخرى على مدى آلاف السنين لاكتشاف ما كان مكتشفاً أصلاً واختراع ما كان مستخدماً أصلاً والبحث والشك والنقاش والجدال في ما كان واضحا جليا أو على الأقل مفسرا من قبل.
إلى جانب ذلك كنت متابعا للحدث الأعظم عند أقوى أمم الأرض حاليا وأكثرها معرفة وتقدما وهي الأمة الأميركية، حيث أقرت السلطات زواج الشواذ جنسيا قانونيا واعتباره انتصارا للطبيعة الإنسانية وتعزيزا لقيم الحب والتسامح، الأعجب من كون ذلك الحدث كان مناسبة رائعة لأولئك الشواذ فإنه كان مناسبة أروع لكثير من غير الشواذ وهم من علية القوم ومن النخب العلمية والسياسية والثقافية.
وكالعادة لا يتوقف الأمر عند فرح الغربيين وحدهم بمنتوجات حضارتهم المترفهة المترفلة بالحرية والحرية المطلقة فإن الفرحة تنتقل إلى عبيدهم وأتباعهم من أبناء الحضارات المتخلفة علميا والأقل معرفة ثقافيا في العالم العربي وبقية أقرانه من الدول المتأخرة، أقل المتعاطفين تعاطفا هم أولئك الذين يعتبرون الشذوذ سيئا جدا إلا أنه أفضل من القتل والإرهاب المحيط، والحقيقة أن كل ذلك القتل ناتج عن انقسامات دينية واجتماعية بين مكونات هذه الشرق، والأحرى كان اعتبار الشذوذ زيادة في الانقسام والتشظي الاجتماعي والديني على إعطائه الأفضلية في شيء على شيء.
وما أقصده هنا ليس مناقشة حيثيات الشذوذ وأسبابه وتأثيراته قريبة المدى على الحضارات المنهارة أو المتجهة بطبيعة الحال إلى الانهيار كما لدينا، بل مناقشة تأثير الشذوذ وغيره من منتجات الحرية المطلقة على دورة حياة الحضارة المتقدمة والمتسيّدة للعالم كالحضارة الغربية، خصوصا شقها الأميركي، فالواضح للجميع أن الفرق في التفوق بينها وبين غيرها هائل جدا، خصوصا في المجال العلمي والتقني والعسكري والاقتصادي، حتى لتشعر أننا بحاجة إلى آلاف السنين لنلحق بهم هزيمة ملحوظة في واحد من تلك المجالات أو في جميعها، فالأصعب من أننا لا نمتلك اليوم أدوات النهوض لنصبح أندادا على الأقل هو أننا لا نملك أدوات النقل، أو بالأحرى ليس لدينا رغبة حقيقية بامتلاك تلك الأدوات.
وبالتالي على ماذا نعقد الأمل في انتصار أو شبه انتصار عليهم، يبدو أنه لم يبق لدينا سوى المجال الاجتماعي، وذلك لا يعني أن لدينا أنظمة اجتماعية أفضل حاليا، بل لأن التصفية الاجتماعية لدينا متجهة نحو الانتخاب وليس نحو الانهيار، أي أننا اليوم نخوض نفس تلك التصفية الاجتماعية التي خاضها الغرب في فترة الصراعات الدينية والطائفية مع أفضلية أن الغرب كان لديه نهضة علمية موازية، بينما التصفية الاجتماعية الغربية برأيي متجهة نحو الانهيار، خصوصا أن منتجاتها اليوم منتجات زائدة عن حاجة الحرية ومتجهة الى تدمير اللبنات الأساسية المكونة للمجتمع، فتعزيز الشذوذ والإباحية مترافقاً مع تعزيز قيم الرأسمالية الجشعة قد لا يكون إلا الوصفة السحرية لانهيار مفهوم الأسرة وتغليب المصلحة الفردية على حساب الاجتماعية، انهيار مفهوم الأسرة هو قيمة لعدم الانتماء والولاء لأي شيء بعده، وتغليب المصلحة الفردية على الجماعية هو تعزيز لذلك الانسلاخ، والتطور في ذلك يعني أنك بالتقادم لن تجد من ذلك المجتمع المنسلخ المتمتع من يرغب أو يعرف لماذا يمكن أن ينتمي إلى مؤسسات الدولة وجيشها ومراكز بحثها، ولا يعرف أكثر ما يمنعه من خيانة تلك الدولة مقابل مصلحة فردية أو متعة شخصية، أليست تلك الدولة هي بالأساس من عززت ذلك لديه وأقرته عليه وباركته له؟
يوما ما ستترك مراكز وجامعات غربية من دون علماء وباحثين، آلات متقدمة من دون مشغلين، أدوات من دون مستخدمين، مشاريع من دون عاملين، فقد انصرف كل أولئك إلى البحث عن حرياتهم ومتعهم ومصالحهم الشخصية، فالحياة لن تكون قيمتها أكثر مما تعودوا عليه. وبالمقابل فإن الحضارات الأخرى المتقاتلة والمتصارعة والمتناحرة فإنها وإن خلصت من صراعها الذي استهلك كل مجهودها فإنها حتما لن تستطيع إكمال مسار تلك التي كانت متفوقة متقدمة عليها لأنها لطالما لم تمتلك أدوات النهوض ولا أدوات النقل.
فكيف لهم أن يقودوا أو يديروا مركبة فضائية وهم ما صنعوا سيارة؟! لو حدث وانتهوا من صراعاتهم فإنهم حتما سيبدأون من الصفر أو أعلى قليلا، البحث في ما بُحث استكشاف ما قد كُشف ومعرفة ما قد عرف، وقد يكون فعلا هذا هو ما كان يحصل مع أسلافنا من البشر مثل السومريين والفراعنة وغيرهم، توقفوا في الطريق فجأة وتوقفت معهم البشرية لعقود، انهيار اجتماعي ذاتي والبديل الحضاري لم يكن جاهزا لنقل جوهر من سبقه.
(فلسطين)