حين نقل العرب معارف الإغريق، في العصر العباسي الأول، لم يكن ثمة معاجم بين العربية واليونانية القديمة، ولا حتى مع اللغة السريانية الوسيطة بين اللغتين. تمتد هذه الملاحظة على مُتعارَف ممارسات الترجمة في العصر الحديث، حيث أخذ فيها المعجم ثنائي اللغة موقعاً مركزياً حتى أننا نتوقّع أن لغتين لا نجد بينهما معجماً يصعب أن تنتقل النصوص بينهما. لكن ما حدث بين قدماء العرب واليونانيين، يُظهر أن المعجم الثنائي ليس عنصراً أساسياً في مدّ جسور متينة بين ثقافتين.
يظلّ المعجم على أهمّيته عنصراً إجرائياً لا غير. الأكثر أهمية يبقى وجود عقلٍ هو عبارة عن نقطة التقاء ثقافتين. بعبارة أبسط، كانت المعاجم في العصر الذهبي للترجمة في رؤوس المترجمين.
على أنه ينبغي التنبّه إلى عدم استعمال مفردة "ترجمة" في ذلك العصر، بدلاً منها كان الفارابي مثلاً يستعمل إما "نقل" أو "اختراع"، والكلمة الثانية قد تتيح لنا أن نفهم أن عدم وجود معاجم، وبالتالي وجود مقابلات جاهزة، كان يدفع الناقلين إلى "الاختراع" باختلاف أشكاله، إما بالتأويل والنهل من معين اللغة العربية، أو باستحداث مفردة، وغالباً ما يكون ذلك عبر تطويع الكلمة الأصلية لمناخ العربية الصوتي والصرفي، لتبقى أشهر نماذج ذلك كلمة "فلسفة"، والتي نتداولها اليوم في مختلف التركيبات وكأنها توأم لمفردات الجاهلية.
التحرّر من المعجم لا يعني إلغاءه، ولا يمكن ذلك، وإنما التفكير إلى جانبه، وافتراض عدم وجوده في بعض الأحيان. تصنع المعاجم وخياراتها الثابتة نوعاً من الاستئناس الذي يخفي فويرقاتٍ يمكن أن تختبئ وراء أية كلمة في نص يجري نقله من لغة إلى أخرى.
يختلف "المعجم" ذو الصيغة المادية (أي في كتاب مطبوع) في أدائه عنه إذا كان لامادياً، أي مزروعاً في ذاكرة شخص ومندمجاً في دورته الدموية وظروف حياته. معجم في الذاكرة يعني معجماً محكوماً بالضرورة بالانتقائية والنسيان والتناسي. تلك إكراهات المحمل الذي يتجشّم عناء الحفاظ على المعجم. وعبر هذا المعجم البشري أتت الثقافات الفارسية والهندية واليونانية إلى العربية، وربما أولى الترجمات في القرن التاسع من الفرنسية والإنكليزية.
اليوم نجد معاجم في ذاكرات أخرى، غير الذاكرة البشرية أو الورقية، معاجم إلكترونية يسهل الوصول لها، عبر شاشة الكمبيوتر أو في الهاتف، يكفي وضع أي كلمة لتجد مقابلها في ثوانٍ. مرة أخرى، يختلف أداء المعجم بحسب المحمل الذي يحتضنه. وإن المتعوّد على استعمال تطبيق "مترجم غوغل" يعرف الكثير عن المطبّات التي قد يقع فيها من لا يضع في حسابه أنه في كثير من الأحيان ينبغي التحرّر من المعجم.