من أكبر المفاجآت في حياتي أنني تمكّنتُ من كتابة الشعر، وأنني قادرٌ على أن أطلق على نفسي لقبَ الشّاعر. تدهِشُني حتى اليوم حقيقة أنني أكتبُ الشّعر. يمازحُني والدي قائلاً: "لقد أحسنتَ بكتابةِ الشّعرِ والاهتمام بالأدب، فلولا هذا لما نجحتَ في شيء". لا أذكر عنوان أول قصيدة كتبتُها، ولا بد أنها كانت قصيدة طفولية. القصائد فانيةٌ مثل البشر، ولا أؤمن بخلودها أبداً. تموتُ القصائد بمرور الزمن وتَهجُرُ كاتبَها لتعيشَ حياتَها المستقلّة. يقول أحد شعرائنا الكبار، راغوفير ساهاي، إن الشعر يموتُ لحظة ولادته. أميلُ غالباً إلى نسيان قصائدي، وعندما يذكّرني أحدهم بقصيدة ما، أقولُ لنفسي: هل كتبتُ هذه القصيدة فعلاً؟
ولدتُ في قرية جبليّة نائيةٍ في أوتاراخاند، حيث كانت الصباحاتُ مشرقةٌ والغيومُ كثيفةٌ والليالي أشدُّ حِلْكَةً من حياتي اليوم. كانت النجوم الساطعة في سماء الليل الصافية لامعةً وقريبةً للغاية حتى نكاد نلمسُها بأيدينا. خلبت هذه النجوم لبّي بكل معنى الكلمة.
كان والدي طبيب أيورفيدا وباحثاً في اللغة السنسكريتية، وكتبَ قصائدَ باللهجة المحلّية، ونظّم المسرحيات البارْسِيّة في قريتي، وغنّى وعزفَ على آلة الهارمونيوم. كان جدّي باحثاً في الأيورفيدا والسنسكريتيّة أيضاً وجامعاً للمصطلحات الشعرية والعبارات التي يستخدمها عامة الناس. وهكذا ألهمتْني الطبيعةُ الخلّابةُ والشعرُ المحلّي المشيَ على خُطى آبائي. بدأتُ بكتابة قصائد غنائية، وفي تقليد بعض الشعراء الهنود الكبار، ولكنّني سرعان ما تعرّفتُ على التعبيرات والصور الحديثة والمعاصرة. حملتُ قصائدي وتوجّهت إلى دلهي، وهناك لم أواجه صعوبةً تُذكر في أن أكون شاعراً، حيث كانت قصائدي مفعمةً بصورٍ ولغةٍ مميّزة مستوحاة من مسقط رأسي، مما جعلها جديدةً إلى حدٍّ ما في الشعر الهندي في تلك الأيام. ولكنني عانيت الأمرّين في تغطية نفقاتي.
وُلدت قصائدي في هذا الفراغ المتوتّر بين الجبال والمدينة
هربتُ من الجبال مثلُ حجرٍ أو حصاةٍ، وتوقّفتُ في المدن كلما وجدتُ مُستَقَرّاً أستريحُ فيه. شعرتُ في فترة ما أنني فشلتُ في الانتماء إلى أي مكان. لم أتصالح يوماً مع مدينة كبيرة مثل دلهي، ولم أتمكّن أيضاً من الحفاظ على هويّة مسقط رأسي. كان وضعي أشبه بوضع اللاجئ، كما لو كنتُ شخصاً مشرّداً غير قابل للاستقرار. لذا يبدو أن هناك نوعا من التوتّر بين ذكرياتي القديمة وخبراتي وتجاربي الحضرية.
كتبَ الشاعر والمسرحي الألماني برتولد بريخت أن "معاناة الجبال من ورائنا وآلام السهول من أمامنا". أعتقدُ أنني أعيشُ هذه الحالة أيضاً. ربما وُلدتْ قصائدي في هذا الفراغ المتوتّر بين الجبال والمشاهد الحضرية في المدينة. تُعدّ المدنُ مساحاتٍ مغريةٍ رائعة لطالما ولّدَتْ ثقافاتٍ متنوّعة. تمنحُنا شوارع المدينة الواسعة والمُضاءَة مشاهِدَ جديدةٍ ومبتكرة، بينما تتهادى شوارع القرية بتكاسل وهدوء في جنباتها. لذلك كانت علاقتي غريبة بكل منهما، حيث أعيش دوماً في ذلك البرزخ ما بين القرية والمدينة. ربما أنتمي إلى ذلك الفراغ، وتلك الأرض المحرّمة فيما بينهما. أردتُ يوماً أن أكون مغنياً كلاسيكياً مثل والدي، أو ربما أفضل منه، ولكنني فشلتُ في مسيرتي الفنية بسبب حياتي الحافلة بالأحداث كصحافي. ولا زلت أشعر بالأسى حتى اليوم بسبب ذلك.
■ ■ ■
ينبغي على المرء أن يهتم بالسياسة، سواء ككاتب أو كمواطن أو كإنسان، فلا أخطرَ على البلاد من ترك مصيرها في أيدي السياسيين الذين قد يدمّرونها. لذلك، لا يمكننا نظراً للوضع السياسي الحرج الذي نعيشه أن نغضّ الطّرفَ عن المسار الاجتماعي والسياسي للأحداث والمصير البشري. لقد أثّرتْ عليَّ الأحداثُ السياسيّة في بلدي تأثيراً كبيراً: من الحركة اليسارية، إلى ثورة الفلاحين في 1967، إلى حالة الطوارئ وعمليات التهجير وتدمير مسجد بابري في أيوديا، ومحنة الفقر ومأساة الأقليات وأقليات الداليت والأديفاسي المسيحية، وهذا الجو الحالي بالطبع من الطائفية المتزايدة والتعصّب والخوف والعنف.
لا أخطرَ على البلاد من ترك مصيرها في أيدي السياسيين
يرجعُ السببُ الرئيس في ذلك إلى أن الطبقات الحاكمة قد سلّمتْ البلاد للمافيا والطوائف والعقائد الدينية والبلطجية والقادة الدينيين. صحيح أن المجتمع يتضمّن دائماً كل أنواع القوى الهدّامة، ولكن مهمة الديمقراطيات تثبيط هذه القوى ووأدها في مهدها. أمّا المؤسف حقاً فهو أن سياسيينا قد تركوا المجتمع يَستَبْطِنُ كلَّ هذا العنف والطائفية والجنون والهذيان. لقد تحوّلَ نصفُ العالم تقريباً إلى ساحة معركةٍ قذرةٍ وإلى مخيّم للاجئين. كانت العولمة، التي تكاد تكون اسماً آخر للأمركة، نزعةً غير إنسانيةٍ على الإطلاق، حيث حاولتْ تقديمَ نفسِها على أنها الحلُّ الفكريُّ الوحيدُ المتاح، والفلسفةُ الوحيدةُ في عصرنا.
لكن هذا لا يعني أننا ينبغي أن نتخلّى عن الحساسيات الجمالية والأسرار الفنية الدقيقة والعناصر المبتكرة المتوقّعة في عملية الإبداع. يزوركَ الشعرُ أحياناً على شكل ذبذباتٍ وهمساتٍ ومعانٍ مجرّدةٍ وصور غامضةٍ، وأشياء لا يمكنك فهمها، لا تأخذ شكلاً شعرياً سوى عندما تحسّ بها أو تراها أو تسمعها فتصبح مادة شعرية. أرى أن المعاني المجرّدة أيضاً تتضمّنُ وجوداً مادياً وحسّياً خاصاً. والعكس صحيح.
■ ■ ■
لقد آمنتُ بالماركسية، بغضّ النظر عن المؤسّسات الأدبيّة والثقافيّة المختلفة التي تستند إليها. كان شعرُ أبناء جيلي مليئاً بالاحتجاجات ضد الظلم، وغالباً ما كان يسعى إلى عالم أفضل وأكثر إنسانية. ما زلتُ أعتقد أن الماركسية واحدة من أكثر الأيديولوجيات إنسانيّةً بعد البوذيّة، ويمكن أن نطلق على كليهما اسم فلسفة الحزن البشري. اكتشفتُ الماركسية وحلّلتُ السبب الجذري للمعاناة والألم من خلال التأكيد على دور الاقتصاد والقيمة المضافة والملكيّةِ الخاصّة والدين. أمّا الأفعال القذرة التي ترتكبُها الأنظمة باسم الماركسية، فتلك أمر آخر مختلف تماماً. وهذا ما حصَلَ أصلاً مع كلّ من البوذيّة والمسيحيّة. إذن، ربما يمكنني أن أطلق على نفسي لقب الماركسيّ المستقل.
رأى الشاعر الهندي الكبير الراحل كونوار نارين أن الماركسية أخذت تتحرّك بعد تفكّكِ الاتحاد السوفييتي، في مجال أوسع وأكثر رحابة في عالم الفكر. ولا يزال ينظر للماركسية للأسف بوصفها أداة للاستيلاء على السلطة، أو إنشاء هياكل سلطوية جديدة. تدينُ جميع الخطابات البارزة السائدة اليوم بوجودها للماركسية، من النسوية إلى دراسات التابع إلى خطاب الهوية. لقد تفكَّكَ النظام السوفييتي بسبب عيوبه ومشاكله الداخلية الخاصة، إضافة إلى قوى الرأسمالية التي كالَتِ العديد من الضربات المتتالية إليه من دون هوادة. فشل النظام السوفييتي أيضاً في معالجة قضيّة الجنسيات التي توجّب عليه حلّها في عهد ستالين.
ولقد شَهِدْنا ذلك في مأساة دول البلقان. ربما لا يحبّ معظمُ الشيوعيين البلدان الشيوعية النامية، ولكنهم لا يزالون يفضّلون اليسار في جميع أنحاء العالم. لا بدّ أن نأخذ بعين الاعتبار أن عصر الرأسماليّة "الكلاسيكيّة" والشيوعيّة "الكلاسيكيّة" قد انتهى، وأن "العدو الطبقي" لم يعد يتمتّع بذلك الشكل القديم نفسه، بل انصهرت جميع تلك الكتل المصمتة في بوتقةِ أشكالٍ رأسماليةٍ جديدةٍ مختلفةٍ ومتنوعة.
* شاعر هندي من مواليد 1948
** ترجمة: عماد الأحمد