من أغضبَ الأردنيين؟

10 فبراير 2015

أردنيون يتظاهرون ضد تنظيم داعش (6 فبراير/2015/Getty)

+ الخط -

في اللحظة التي أشعر أنه وطن على حافة الانهيار، يباغتني تارة أخرى كطود عصيٍّ على السقوط، بل وأشد رسوخاً وثباتاً من أوطانٍ أخرى، تتبجّح بالتاريخ والعراقة. وأراه مثل قاعة "ترانزيت" في المطارات، كل فئة عرقية فيه تنتظر طائرتها الخاصة التي تعيدها إلى مسقط رأس أجدادها الذي هاجرت منه قسراً، أو طوعاً. لكن، سرعان ما تتحول هذه القاعة، عند حادثةٍ ما، إلى ملاذ يستقبل قادمين جدداً من أدنى الأرض وأقصاها.

فقراء، لكنهم يعشقون فقرهم، إذا كان ثمن الثراء المساومة على عروبتهم، وهذا ما تبدّى في ملايينهم التي ملأت شوارع المملكة لأشهر، رفضاً لاحتلال العراق، وكان في وسعهم أن يستفيدوا نفطاً وذهباً، لو اختاروا المعسكر الآخر. وفي المقابل، دفعوا ثمناً باهظاً من طرد مغتربيهم من الخارج، وإفلاس خزينتهم، وحصار مينائهم، لكنهم، حتى اللحظة، لا يزالون مؤمنين بخيارهم. ولو تماثل الزمن، مرة أخرى، ما تراجعوا عن هذا الخيار.

يبتاعون أسطوانة الغاز بثمانية دنانير وعشرة وعشرين، ويُؤثرون العودة إلى زمن الحطب، إذا لزم الأمر، لكنهم يرفضون رفضاً قاطعاً اتفاقية الغاز مع الكيان الصهيوني، واستخدامه ولو جاء هبةً، لأنهم يعرفون أن ثمنه سيتحول رصاصاً وقنابل ذكية و"غبية"، تحرق أجساد أهلهم في فلسطين. وعلى هذا الغرار، أيضاً، يرفضون شراء المنتوجات الإسرائيلية الأخرى، وتراهم يدققون النظر في حبات الطماطم، بحثاً عن بلد المنشأ.

يقفون ساعات على أبواب المستشفيات والمراكز الصحية لصرف مستحقاتهم من حبوب الضغط والسكري، لكنهم، على الأغلب، يغفلون عن تناولها عند متابعتهم حدثاً مهمّاً على "الجزيرة"، أو فرحاً بعملية نوعية لأبطال فلسطين، أو أسفاً على "ربيعٍ" أخمده انقلابيو مصر واليمن وليبيا.

ينفقون العمر برمته في توفير مبلغ لبناء غرفتين، أو ثلاث، لضرورات "الشيخوخة"، غير أنهم سرعان ما يخلون البيت كله، إذا جاءهم لاجئ يطلب ملاذا آمناً بينهم. يخرجون من بيوتهم فارغي الجيوب، مثقلين بأقساط البنوك والجمعيات والمدارس والجامعات، وفواتير الماء والكهرباء، وإذا سألتهم عن أوضاعهم أجابوك: "مستورة"، على الرغم من انكشافهم المادي والمعيشي، وإذا زاحمهم العمال الوافدون على وظائفهم، انسحبوا صامتين.

ومن مفارقات الأردنيين، أنهم لا يربطون مواقفهم بمواقف نظامهم، فغالبيتهم، مثلاً، ضد "معسكر السلام" مع عدوهم الصهيوني، ويرفضون اتفاقية وادي عربة التي حشد لها النظام الرسمي كل أدواته، لكنهم قادرون على الفصل بين المواقف، ولا يتحرّجون من التلاحم مع النظام نفسه، إذا شعروا أن القضية تمس كرامة المجموع.

ربما كان الأردن اكتشافاً حديثاً، أسهم فيه مكتشفون، كانوا يبحثون عن ملجأ يفرون إليه بحياتهم أحياناً، أو بعقائدهم الدينية والفكرية، أو بثوراتهم، لكنه أصبح، بعد طول هذا الانخراط الجمعي والتفاعل العقائدي والإيديولوجي والفكري، واحداً من أخصب البلدان العربية تسامحاً، وقبولاً للآخر واختلاف الرأي، وتجد في الحيّ الواحد مسلمين ومسيحيين وشيوعيين وإخوان مسلمين وشركس وأرمن وعراقيين وسوريين، وما شئت من الأجناس، يتفاعلون ويحترم واحدهم الآخر، ويبجّل خصوصيته وعاداته وتقاليده. ولكن، للتسامح الأردني حدود لا تقبل المساس بثوابت معينة، على غرار الكبرياء والأنفة والاعتزاز بالنفس، وهذا ما لم يدركه داعش، وهو يقدم على فعلته القبيحة بحرق أردني أسير.

صحيح أن داعش نفر من جَهَلة لا يقرأون التاريخ، إلا ما كان يخدم نهجهم المشوّه فحسب، لكنهم لو أنعموا النظر قليلاً في المحتوى النفسي الجمعي للأردنيين، لفكّروا ألف مرة، قبل الإقدام على هذه الفعلة التي يعدّها الأردنيون مساساً بخطوطهم الحمراء.

داعش أضرم النار، من دون أن يدري، ليس بجسد معاذ الكساسبة فحسب، بل بالمحتوى النفسي للأردنيين الذي لا يساوم على الكبرياء، ويرفض مثل هذه الممارسة الرعناء مع الأسير والدخيل واللاجئ، فكان أن تبدّلت المعادلة، وأصبح الشعب مَن يقود النظام طلباً للثأر.

يا لغباء داعش، فقد أغضب الأردنيين.

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.