اتصل بي أحد الأشخاص بداية الأسبوع الماضي، وقال لي إنه يمثل الشركة المسؤولة عن تزويدنا بالكهرباء والمياه والغاز في المنطقة التي أعيش بها في ولاية مريلاند شمال العاصمة الأميركية واشنطن، وقال لي إن مندوبي الشركة سيكونون موجودين بالمنطقة التي نقطنها يوم الأربعاء، وأنهم يعرضون علينا أن يأتوا لمعاينة منزلنا، مجاناً، لإخبارنا إذا ما كنا نحقق أقصى توفير ممكن في الخدمات الثلاث.
أبديت موافقة مبدئية، فقال لي الرجل إن موعد الزيارة التي يرغبون فيها إما أن يكون بين التاسعة والحادية عشرة صباحاً، أو بين الواحدة والثالثة ظهراً. فلما أوضحت له أنني لن أكون بالمنزل قبل الرابعة، قال حسناً. سنكون في انتظارك عند المنزل في الرابعة، وحثني على الحضور قبل ذلك إن أمكن.
حضرت في الموعد، ودخل الرجل وتجول في المنزل، ثم شكرني على أن أغلب المصابيح (لمبات الإضاءة) كانت من النوع "ليد" الموفر للطاقة، ووجد لمبتين من نوع مختلف، فاستأذنني في تغييرهما، بدون تحميلي أي تكاليف، ووافقت.
ثم دخل الرجل الحمامات، ولما وجد أن صنابير المياه وفتحات الدُش، في أحواض غسل اليدين وفي أحواض الاستحمام، من النوع الذي يستخدم المياه بغزارة، عرض عليَّ استبدالها بأخرى تساهم في توفير استخدام المياه، بدون تحميلي أي تكاليف، فوافقت.
وقبل انصرافه، شرح لي الرجل كيفية استخدام التكييف المركزي في المنزل بالصورة التي تساهم في توفير الطاقة بأقصى درجة ممكنة، فشكرته وانصرف بعد أقل من نصف ساعة من وصولنا.
في اليوم التالي، وأثناء استماعي للراديو في السيارة، عرفت أن ولاية مريلاند خصصت أحد أيام هذا الأسبوع، وتحديداً في الفترة بين الواحدة والثالثة ظهراً، لتخفيض استخدام الطاقة في الولاية، وتبع الخبر بشرح لما يمكن أن نستفيد به جميعاً من توفير الطاقة، فاستجبت في اليوم والساعة المحددين، وحاولت تقليل استخدام الكهرباء والغاز بالقدر الممكن.
وبعد ثلاثة أيام، وصلني بالبريد شيك بمبلغ 15 دولارا من الشركة ذاتها، وفي سطرين قالت الشركة إن هذا المبلغ هو مكافأة لي على استخدامي الرشيد للطاقة خلال الشهر الماضي.
في جولاتي المتعددة في شوارع الولاية، وفي ولايات أخرى، لاحظت أن أغلب الطرق، الرئيسية والفرعية، لا توجد بها إضاءة إلا نادراً، وإذا خلا شارع من المحلات أو المنازل، تختفي الإضاءة تماماً، ولا يوجد في الطريق إلا علامات "عيون القط" cat eyes التي تساعد السيارات على الالتزام بقواعد المرور، بالإضافة إلى خطوط السير وعلامات الإرشاد التي يتم التأكد دائماً من جودتها ودقتها ووضوحها، حرصاً على سلامة المواطنين. وفي الشوارع الجانبية، تنتشر أعمدة الإنارة التي تعمل بصورة آلية فور وصول أحد المارة إلى المنطقة المحيطة بها، وبخلاف ذلك فهي مطفأة، توفيراً للطاقة!
يحدث ذلك في الولايات المتحدة الأميركية، كما في كثير من البلدان الأوروبية، رغم أنها أغنى منا كثيراً، حيث يصل متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في الولايات المتحدة إلى حوالي 60 ألف دولار سنويا، بينما هو في مصر لا يتجاوز ثلاثة عشر ألفاً، حتى مع استخدام مفهوم تعادل القوى الشرائية Purchasing Power Parity .
يحدث ذلك في الولايات المتحدة وهي أكبر دولة منتجة للغاز الطبيعي، الذي يستخدم بكثافة في توليد الكهرباء. ويحدث ذلك أيضاً في دولة لم يتجاوز فيها معدل التضخم 4% منذ عام 1990، بل إنه استقر حول 2% أو أقل خلال السنوات السبع الأخيرة.
لم تكتف الدولة بتوفير بضعة أكشاك لبيع اللمبات الموفرة للطاقة للمواطنين بأسعار تفوق قدراتهم، بل تحملت تكلفة شراء المواطنين للمبات وتركيبها واستبدالها، ومنحت المستخدم الرشيد مكافأة، لأنها تعلم جيداً أنها ستجني أكثر من كل تلك التكاليف عند توفير الطاقة، رغم أن الدولة هنا لا تدعم أسعار الغاز أو الكهرباء أو المياه.
لم تنتظر الدولة من المواطنين أن يتصرفوا وحدهم بما يحقق الصالح العام، وتدخلت بالنصح والإرشاد، وأخذت زمام المبادرة، قبل أن تجف الموارد ويضيق العيش على المواطنين. ولم تنتظر الولاية نقص مياه الأنهار، بفعل الجيران أو الطبيعة، وتحركت للتأكد من ترشيد استخدام المياه في كل مكان.
لم يركنوا إلى الأمطار التي تسقط بغزارة طوال العام، ومنعوا منعاً باتاً غسل السيارات باستخدام خراطيم المياه أمام المنازل، كما يحدث في مشهد اعتدنا رؤيته في شوارع مصرنا المحروسة على مدار العقود الأخيرة. هم هنا لا ينتظرون اشتعال الحرائق حتى يتأكدوا من توفر أجهزة الإطفاء وجودتها.
هم يفعلون ذلك في وقتٍ ينمو فيه الاقتصاد الأميركي بأحد أفضل معدلاته خلال العقد الأخير، وترتفع فيه قيمة عملتهم أمام كل عملات العالم، وتسجل فيه مؤشرات البورصة الأميركية أعلى مستوياتها في التاريخ، كما ينخفض فيه معدل البطالة إلى أقل من 4%.
وعلى الرغم من تأكيد العديد من المحللين أن من يديرون الأمور حالياً هم في وضع أفضل مما كان عليه المسؤولون وقت نشوب الأزمة قبل عشر سنوات، إلا أنهم حذروا من أن الأزمة قادمة لا محالة، وأن أي توجه نحو تخفيف القيود على المؤسسات المالية قد يؤدي إلى أزمة أكبر كثيراً مما حدث في عام 2008.
هم يفعلون ذلك مع كل هذه المظاهر من قوة الاقتصاد، بينما نجد عندنا من يؤكد أن الاقتصاد المصري "صامد أمام ما يحدث في الأسواق الناشئة"، وهو يلهث وراء كل دولار يستطيع اقتراضه من الخارج، حتى ارتفع الدين العام والدين الخارجي لأعلى مستوياتهما في التاريخ، وانخفضت معدلات النمو الحقيقية، واقتربت معدلات البطالة من 12%، وتزيد عن ذلك لو استبعدنا الوظائف المؤقتة، كما اقترب معدل التضخم السنوي من 14%. فأي الفريقين أحق بالترشيد!