16 نوفمبر 2024
من أبو عمّار إلى أبو ماريا
لمن يعرف كيف يعمل العالم، يُمكنه أن يُصدّق أن النيابة العامة في ضاحية نانتير الفرنسية لن تبتّ في الدعوى المُقامة من سهى، أرملة الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، في شأن التأكد من وفاته مسموماً في العام 2004. "حسم" المدعي العام الفرنسي الذي كان مسؤولاً عن التحقيق الموقف بإغلاق الملف. تُظهر عدالة الأرض، أحياناً، أن بعض الأدلّة لا تحتاج إلى وقت كثير لتبيان حقيقتها. العدالة تبقى مجزّأة في تلك الظروف.
ما حصل مع عرفات يتشابه، بطريقة عكسية، مع رئيس الوزراء الاسرائيلي الراحل، آرييل شارون، ففي مطلع العام 2001، أقام أقارب ضحايا مجزرة مخيمي صبرا وشاتيلا للاجئين الفلسطينيين، الموجودين في بيروت، دعوى قضائية في بلجيكا ضد شارون، لتورّطه في المجزرة التي ارتُكبت يومي 15 و16 سبتمبر/أيلول 1982، لكونه وزيراً للدفاع الإسرائيلي في ذلك الوقت، وقائداً لقوات الاحتلال التي غَزَت لبنان.
استند أقارب الضحايا إلى قانون بلجيكي صادر في 1993، يسمح للمحاكم البلجيكية بمحاكمة أجانب في جرائم ضد الإنسانية والإبادة، بغض النظر عن المكان الذي ارتُكبت فيه، إلا أن "أمراً ما" حصل، لتُسقط من خلاله محكمة الاستئناف البلجيكية القضية، بسبب "عدم اختصاص القضاء البلجيكي بالنظر فيها"، في يونيو/حزيران 2002. وقتها دفع أحد المُتهمين بالمجزرة، اللبناني إيلي حبيقة، حياته ثمناً لها، خصوصاً بعد إعلانه، أمام وفد بلجيكي زاره في بيروت، استعداده للمثول أمام المحاكم البلجيكية "لتبيان حقيقة المجزرة وإحقاق براءته منها"، كما قُتل على هامشها أيضاً، أحد رجال الأعمال المقرّبين من حبيقة، مايك نصّار وزوجته في البرازيل.
في المقابل، لم تُحاسب إسرائيل على جرائمها في فلسطين ولبنان ومصر، واحتلالها الجولان السوري، وقبله الضفة الشرقية في الأردن، بل عللت كل جرائمها بالقول إنها "كانت في حالة دفاع عن النفس"، وسعت إلى طيّ صفحة المحاكم، و"إظهار إرادتها للسلام" باتفاقيتي سلام مع عمّان والقاهرة، و"احتفاظها" بالجولان وبمزارع شبعا اللبنانية. ولم تُطبّق أي اتفاق مع الفلسطينيين منذ "أوسلو".
ومع أنهم تلقوا تعويضات هائلة من ألمانيا وسويسرا على خلفية الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945)، إلا أن سلطات الاحتلال لا تعترف بحقّ الفلسطينيين وغيرهم بذلك، على الرغم من كثرة الجرائم. هنا أيضاً تغيب العدالة الدولية، المُفترض أن تحسم مسألة التعويضات لضحايا القضية الفلسطينية.
في نانتير وقبلها في بروكسل، جزء بسيط من واقع "إخفاء الحقائق" أو "عدم تقبّلها"، لصالح حقيقة أكثر ضجيجاً، تُمثلها مجموعات الضغط الإسرائيلية واليهودية التي تبقى منتصرة حتى إشعار آخر، بفعل تكريسها "نمطية" راسخة في اللاوعي الغربي عن "مظلومية الجيش الذي لا يُقهر"، لا عن مظلومية آلاف المدنيين الذين سقطوا بفعل استخدام قوات الاحتلال مختلف أنواع الأسلحة.
استساغ بعضهم "النمطية" المفروضة من إسرائيل على الغرب، متبعاً لعبتها ومتماشياً مع قوانينها، من حيث لا يدري. وهو بذلك يضمن استمرارية أدائها دور "الضحية"، أو على الأقل، إبعاد الشبهات عنها في مختلف المحاكم، المحلية أو العالمية. ومع أن انضمام فلسطين للمحكمة الجنائية الدولية، مطلع شهر إبريل/نيسان الماضي، أعطى بارقة أمل في إمكانية ملاحقة إسرائيليين بتهم متعلقة بجرائم الحرب، فإن خلاصات محكمتي نانتير وبروكسل لا تدع مجالاً لإيجابية كثيرة.
لم تعد تلك "النمطية" مخيفة فحسب، بل مُرعبة، خصوصاً أن عدّاد تسجيل أرقام الضحايا اليومي لم يعد قادراً على تحفيز أصحاب الحق للمطالبة بحقهم. وهو ما يُشكّل موتاً حقيقياً لكل فعل مقاومة. فشهيدٌ كفلاح أبو ماريا، الذي سقط فجر الخميس برصاص الاحتلال، أمام منزله، بات مجرّد ضحية أخرى من ضحايا الصراع الذين يتمنّى أقاربهم دفنهم بإكرام فقط، من دون التعرّض لإهانات الاحتلال. هنا، ينتصر الاحتلال وتسقط المقاومة مرة أخرى.