منير العكش: الفلسطينيون ليسوا هنودًا حمراً

18 اغسطس 2015
+ الخط -
يصف منير العكش نفسه بأنه مستوطن أميركي ويعتبر، بناء على الحقائق الدموية حيال أقوام الهنود الحمر وإبادتهم، أن كل مواطن أميركي هو في المحصلة مهاجر غير شرعي. أما في المقلب الآخر، فيقول إنه سوري بالمولد فلسطيني بالاختيار. شغل أستاذ الإنسانيات واللغات الحديثة ومدير الدراسات العربية في جامعة سفيك، في ولاية بوسطن الأميركية. عن آخر مؤلفاته ورؤاه الفكرية والنقدية هذا الحوار.

* ماذا‮ ‬يريد أن‮ ‬يقول عنوان كتابك‮ "‬دولة فلسطينية للهنود الحمر‮"‬‮ ‬الصادر حديثاً‮ ؟

أولاً،‮ ‬ليس في‮ ‬هذا العنوان أية‮ ‬استعارة أو مجاز أو تورية‮.‮ ‬الاسم الوحيد المقترح للدولة الهندية هو‮ "‬كنعان‮".‮ ‬و"كنعان‮"‮ ‬كما تعلم‮‬،‮ ‬هو الاسم الشائع تاريخياً‮ ‬لفلسطين‮. ‬هذا الاسم اقترحه إسحاق مكوي‮، ‬الذي‮ ‬قضى معظم حياته‮ ‬يروج لفكرة الدولة بين الهنود،‮ ‬وعمل لأجلها في‮ ‬إدارة ثلاثة رؤساء أميركيين‮، كان هدفهم الأوّل‮ ‬يومها اقتلاع‮ ‬هنود الشرق من بلادهم وزرعهم‮ ‬بعيداً‮ ‬وراء الميسيسيبي،‮ و‬زرعهم في‮ ‬حقول ألغام،‮ ‬تارة اسمها الوطن المستقل الجديد،‮ ‬وتارة هي‮ ‬الدولة التي‮ ‬سيعيش فيها الهنود إلى الأبد‮. ‬هذه الدولة‮ ‬يسميها مكوي‮ ‬بدولة "كنعان الهندية" Indian Canaan. وهو لا‮ ‬يخفي‮ ‬أن السيطرة الكاملة على هذه الدولة‮، ‬التي‮ ‬لم ترَ النور أصلاً‮، ‬سيكون للولايات المتحدة،‮ ‬وأن كل ما على الهنود فعله هو تقبّل استعمارهم بسرور‮.‬
‮"‬كيف‮ ‬يتقبل الهنود استعمارهم بسرور‮"‬،‮ ‬هذا ما قد‮ ‬يقوله عنوان الكتاب لو أن مؤلفه كان إسحاق مكوي‮، إذ لإسحاق كتيبٌ صغيرٌ بهذا العنوان. ‬أما ما‮ ‬يقوله عنوان‮ "‬دولة فلسطينية للهنود الحمر‮" ‬فقد رددته في‮ ‬ثنايا الكتاب بإلحاح وعن قصد أكثر من مرّة.‮ ‬رددته في‮ ‬معظم محطات رحلة هذه‮ "‬الدولة الهندية‮" ‬من الحلم إلى الكابوس‮. ‬حاولت أن ألخص عبر ‬كلماته القليلة لماذا أبيد أكثر من خمسمائة أمة وشعب كانوا‮ ‬يعيشون في‮ ‬المنطقة التي‮ ‬تسمى اليوم بالولايات المتحدة‮؟ ‬كيف خسروا بلادهم، و‬كيف كانت فكرة الدولة سلاحًا ‬من أسلحة هذه الإبادة؟‮ و‬لماذا انتهى الناجون منهم في‮ ‬معازل هي‮ ‬معسكرات موت بطيء‮ ‬يشبِّهها الزعيم الهندي‮ ‬الراحل، راسل مينس، بأحشاء الوحش؟‮. ‬ ولكن اسمح لي‮ ‬قبل الكشف عما‮ ‬يقوله عنوان الكتاب، أن أعترف بأن هذا الكتاب بدأ بحاشية في‮ ‬مقالة لي‮ ‬نشرتُها في‮ ‬مجلة "الكرمل‮" خريف 5002، ‬أي‮ ‬قبل حوالى‮ ‬عشر سنوات‮، حيث ‬ذكرت عرضاً‮ ‬أن حاكم كنساس قال إنه لا‮ ‬يمانع في‮ ‬أن‮ ‬ينشىء الهنود لأنفسهم دولة‮. وأوّل من استوقفته الحاشية، الشاعر محمود درويش‮. ‬محمود اكتفى بالقول‮: ‬أأنت متأكد من هذا الكلام؟ وفي‮ ‬عام‮ ‬2009‮ صدر كتابي‮ "‬الإبادات الثقافية‮"‬،‮ ‬وتضمن مقالة "الكرمل"،‮ ‬فاستوقفت الحاشية عدداً‮ ‬من الأصدقاء المعنيين الذين سألوني‮ ‬عن جديتها، وشجعوني‮ ‬على البحث. من‮ ‬يومها صارت حقيقة هذه "الدولة الهندية‮" ‬تحدّياً‮ بالنسبة لي‮. ‬مشكلته الأولى عدم وجود مرجع‮ ‬يحيط بموضوع هذه الدولة ويمكن الاعتماد عليه‮. ‬لذا كان عليَّ ‬البدء من الصفر‮؛ ‬من الوثائق والرسائل والسجلات والأوراق الأولى لأكثر من عشرة أجيال من البشر،‮ ‬أي‮ ‬من رحم أمِّ التاريخ‮. ‬ست سنوات من البحث،‮ ‬كل لحظة فيها كانت بست سنوات‮. ‬صحيح أن كثيراً‮ ‬من هذه الأوراق والوثائق مملة‮ ومكررة،‮ ‬لكن ما إن تعثر على وثيقة ذات صلة حتى‮ ‬ينتفض نشاطك‮. ‬أنت هنا لست أمام ورقة‮ ‬صفراء بالية،‮ ‬بل أمام شريط مصور تعجز كل عبقرية الميلودراما عن محاكاته‮. ‬ميلودراما أبطالها بشر مثلي‮ ‬ومثلك، كانت كل هذه الأرض، التي‮ ‬تسمى اليوم بالولايات المتحدة الأميركية ويعيش فيها اليوم‮ ‬300‮ ‬مليون "مستوطن"، ملكاً‮ ‬لأممهم وشعوبهم‮. ‬أنت هنا بين أوراق الدولة ووثائقها ومعاهداتها، تشهد ملهاة ومأساة على مسرح واحد‮. ‬إنها ملهاة الجزرة ومأساة الحمار‮.‬
لأكثر من مائتي‮ ‬سنة ظلَّ الهنود‮ ‬يلهثون وراء جزرة الدولة‮. و‬باسمها ساقهم‮ ‬غزاة بلادهم كالقطعان من وطن خالد هنا إلى وطن خالد هناك، حتى وجدوا أنفسهم في‮ ‬هذه المعازل التي‮ ‬لا تختلف عن معسكرات الاعتقال‮. ‬غزاة بلادهم أغلقوا في‮ ‬وجوههم كل أمل في‮ ‬حياة كريمة لهم في‮ ‬هذا العالم‮. ‬وفي‮ ‬المقابل فتحوا لهم أبواباً‮ ‬كثيرة على وطنهم الحقيقي‮ ‬في‮ ‬العالم الآخر‮. ‬كانت تكاليف هذا اللهاث العبثي‮ ‬وراء جزرة الدولة كبيرة جداً‮، أبرزها أن لقمة عيشهم صارت وقفاً‮ ‬على ما‮ ‬يَمُنُّ عليهم به لصوص بلادهم‮.‬

اقرأ أيضاً: إبراهيم مهوي: أنا طالب يتتلمذ على يد الأدب

منذ أيام أندرو جاكسون، الذي‮ ‬تجد أيقونته على ورقة العشرين دولاراً، صاغت الولايات المتحدة سياستها الهندية لاستدراج من بقي‮ ‬من الأمم الهندية على قيد الحياة ليموتوا جوعاً‮ ‬وقهراً،‮ ‬وليكونوا الجماعة الأشد فقراً‮ ومرضاً‮ ‬والأسوأ مسكناً‮ ‬وملبساً‮ ‬وتعليماً‮ ‬والأعلى‮ ‬نسبة في الانتحار وموت الأطفال‮. ‬ثم إن الجشع إلى استثمار ثروات معازلهم من نفط وغاز ويورانيوم ومصادر خام أخرى، أدّى إلى مسخ هؤلاء الهنود من أمم في‮ ‬حالة الأسر إلى قطعان من الماشية في‮ ‬حظائر مغلقة‮.‬
مأساة هذه الأمم والشعوب ثقافية بالدرجة الأولى‮. ‬لم تكن ثقافتهم المسالمة تدرك ما تخبئه لهم‮ "فكرة أميركا‮" ‬المستنسخة من فكرة إسرائيل الأسطورية؛ فكرة احتلال أرض الغير واستبدال شعب بشعب،‮ ‬واستبدال ثقافة بثقافة وتاريخ بتاريخ‮. ‬فكرة تسمو بأهلها‮ على‮ ‬أخلاق البشر،‮ ‬وأعراف البشر،‮ ‬وقوانين البشر،‮ ‬وحياة البشر،‮ ‬وحريات البشر‮.هذا‮ ‬يعني‮ ‬أن استحالة قيام دولة لهؤلاء الهنود كامن في‮ ‬فكرة أميركا نفسها‮. ‬وهذا ما تتبعته‮ ‬تجريداً‮ ‬في‮ ‬الدين والفلسفة،‮ ‬وتجسيداً‮ ‬في‮ ‬وباء الاستيطان،‮ ‬وفواجع الترحيل،‮ ‬والاستعمار الداخلي،‮ ‬وشراك المعاهدات التي‮ ‬لم تحترم أميركا واحدة منها‮. ‬وإذن فإن فكرة أميركا المستنسخة من فكرة إسرائيل الأسطورية هي‮ ‬التي‮ ‬جعلت من كل أرض للهنود فريسة مستباحة، ومن كل هنديٍّ‮ "وجوداً‮ ‬للموت‮". ‬هذا ما‮ ‬يقوله عنوان الكتاب‮.‬

* أليس في‮ ‬هذه المقاربة بين الفلسطيني‮ ‬والهندي‮ ‬نوعا من الاختزال؟ حيث ثمة اختلاف ‬كبير ‬بين تاريخ الفلسطيني‮ ‬وثقافته وإدراكه بواقعه السياسي‮ ‬والجغرافي،‮ ‬وبين الثقافة الغافلة للهندي‮ ‬الأحمر، الذي‮ ‬انتهت به طوباويته إلى مصير مأسوي‮ ‬لم‮ ‬يواجهه من قبله أي‮ ‬شعب في‮ ‬التاريخ‮. ‬كما أن ارتباط الفلسطينيين بكنعانية فلسطين لها صلات تاريخية،‮ ‬و"كنعانيتهم‮" ‬ليست مجرد تسمية مجازية ألصقت بهم كمبرر لاهوتي‮ ‬لإبادتهم‮.‬

لا أعرف كيف أشكرك لأنك أتحت لي‮ ‬هذه الفرصة لإزالة التباس طال عهده. فهذه المقاربة بين الشعب الفلسطيني‮ ‬والشعوب الهندية،‮ ‬إذا صح وجودها،‮ ‬أراها أسوأ بكثير من‮ "الاختزال‮" ‬الذي‮ ‬تتحدّث عنه‮. ‬أسوأ‮،‮ ‬لا‮ ‬لأن فيها‮ ‬تهوراً ‬في‮ ‬استعمال قياس التمثيل،‮ ‬ولا لأن فيها لَيّاً‮ ‬لعنق الزمان والمكان والأحداث،‮ ‬بل لأن فيها ما هو أشنع من ذلك‮: ‬فيها ظلم للشعبين معاً‮. ثمة فصول كاملة خصصتها لنقد وتفنيد تطبيقات علم الاجتماع العرقي،‮ ‬أو لكشف رعونة الأنثروبولوجيا ذات المركزية العرقية في‮ ‬دراسة هذا الشعب أو ذاك،‮ ‬وخاصة في‮ ‬كتابي‮ "‬الإبادات الثقافية‮". ‬لكن،‮ للأسف فإنني‮ ‬منذ أن نشرت كتابي‮ ‬الأول عن إبادة الهنود الحمر وكشفت فيه عن المعنى الإسرائيلي‮ ‬لأميركا،‮ ‬وعن إصرار الغزاة البريطانيين الأوائل على تسمية الهنود بالكنعانيين،‮ ‬سمعت وقرأت الكثير عن هذه المقاربة بين الشعب الفلسطيني‮ ‬والشعوب الهندية،‮ ‬مقاربة ليس في‮ ‬كل ما كتبته جملة واحدة تفيد بمعناها‮. ‬ولا أدري‮ ‬كيف تجرأ الكثيرون،‮ ‬ومعظمهم بنيّة حسنة،‮ ‬على ارتكاب هذه المقاربة المؤذية للذوق والمنبثقة عن كل ما هو منطقي‮ ‬وأخلاقي‮ ‬ووطني‮. ‬إنها‮ ‬ليست أفضل من حساء مقرف من الإطلاقات الاعتباطية المرتجلة‮. ‬وهنا أرجو أن تسمح لي‮ بمناشدة هؤلاء ‬بالكفّ عن هذه المقاربة المهينة، التي‮ ‬ليس لها أساس عقلي‮ ‬أو تاريخي‮ ‬أو اجتماعي‮ ‬أو أي‮ ‬حظ من التحقق‮. المعنى الإسرائيلي‮ ‬لأميركا،‮ ‬وهو فكرة مركزية في‮ ‬كل دراساتي‮ ‬الأميركية،‮ ‬ليس فيه ما‮ ‬يدل،‮ ‬لا من قريب ولا من بعيد على مقاربة بين الشعب الفلسطيني‮ ‬والهنود الحمر‮. ‬والقول إن فكرة أميركا مستنسخة من فكرة إسرائيل الأسطورية،‮ ‬أو أن‮ ‬كل تفصيل من تفاصيل الغزو البريطاني‮ ‬لشمال أميركا، حاول أن‮ ‬يجد جذوراً‮ ‬له في‮ ‬تلك الإسرائيل الأسطورية،‮ ‬أو أن الموجات الاستيطانية الأولى استنسخت أحداثها وتقمصت أبطالها وعاملت الهنود على أنهم كنعانيون، لا‮ ‬يعني‮ ‬أبداً‮ ‬أن الفلسطينيين صاروا هنوداً‮ ‬حمرًا ونبت في‮ ‬رؤوسهم الريش‮. هذه المقاربة لا تتم إلا بمنطق‮ ‬الكيمياء السحرية‮. ‬نعم‮، هناك كثير من التشابه،‮ ‬بل كثير من التطابق بين الجلادَيْن‮: ‬جلاد الهنود وجلاد الفلسطينيين،‮ ‬أمّا الضحيتان فمختلفتان تماماً؛ مختلفتان في‮ ‬الزمان ‬والمكان ‬والتاريخ‮‮ ‬والجغرافيا،‮ كما في التفكير والثقافة ‬ونمط الحياة‮. ‬وأهم من ذلك كله أنهما مختلفتان في‮ ‬مقاومتهما للغزو وفي‮ ‬حظهما من الانتصار‮. ‬فسواء طال الزمن أو قصر،‮ ‬ليس من مستقبل لكيان صهيوني‮ ‬في‮ ‬فلسطين‮.‬ وأعترف أن مرد معظم هذا الالتباس‮ ‬يعود،‮ ‬في‮ ‬ما أظن،‮ ‬إلى الفصول التي‮ ‬خصصتها للحديث عن خطر الاستعمار الداخلي‮ ‬الذي‮ ‬يعيشه الهنود في‮ ‬ظلّ سلطتهم الهندية‮. ‬وهي‮ ‬سلطة أنشأتْها الولايات المتحدة لهم باسم مكتب الشؤون الهندية وأوكلت إليها كل مهمات مكتب دفن الموتى‮. ‬فمنذ أيام جورج واشنطن، استخدمت الإدارات الأميركية المتتابعة وسائل قانونية وإدارية وعسكرية لتفريغ‮ ‬استقلال الشعوب الهندية، ولتدمير سيادتهم على أراضيهم،‮ ‬بألف حيلة وحيلة‮. ‬أخطرها،‮ ‬بالطبع،‮ ‬هو إنشاء هذه السلطة الهندية في‮ ‬أوائل القرن التاسع عشر لتكون سلاحاً‮ ‬مكمّلاً‮ ‬في‮ ‬حرب الإبادة‮. تدمير هذه السلطة لثقافة المقاومة،‮ ‬مثلاً،‮ ‬كان أخطر من تدمير الغزاة للمقاومة نفسها‮.‬ ثم إنه منذ اليوم الأول لإنشاء هذه السلطة، لجأت حملةُ‮ ‬نهب الأرض‮ وثروات الأرض‮ ‬إلى استبدال الغزو بمعاهدات احتيالية وصفقات ورشى، كانت نتائجها أسوأ من الغزو والمعاهدات الاحتيالية نفسها‮. ‬
هذا الاستعمار الداخلي‮ ‬الذي‮ ‬تمثّله السلطة الهندية و‬استنسختْه اتفاقيات أوسلو حرفياً‮ ‬هو اختراع أنكلوسكسوني‮ ‬بامتياز‮. ‬إنه من أخبث وألطف أنواع الاستعمار على مدى كلّ تاريخ الاستعمار القديم والحديث‮. ‬وهو ما دعا الزعيم الهندي‮ ‬راسل مينس إلى التعبير عنه أمام لجنة حقوق الإنسان في‮ ‬جنيف باسم كل الشعوب الهندية قائلاً‮: "إننا نعيش في‮ ‬أحشاء الوحش‮. ‬وهذا الوحش هو الولايات المتحدة‮". ‬
بفضل هذه السلطة التي‮ ‬تجسّد أدهى أنواع الاستعمار الداخلي،‮ ‬صارت العلاقة‮ ‬بين الوحش والبشر الذي‮ ‬يعيشون في‮ ‬أحشائه لا تختلف عن علاقة راعي‮ ‬البقر بأبقاره‮. سلطة شرعنت نهب أراضي‮ ‬الهنود وثرواتهم وتولّت نيابة عن الغزاة ترسيخ شقائهم وتعزيز استعمارهم‮. ‬سلطة كانت وما زالت المسؤولة الأولى عما سميته بتنمية الاهتراء والاضمحلال، التي‮ ‬أجبرت الهنود على أن‮ ‬يكونوا عالة على لصوص بلادهم وناهبي‮ ‬ثرواتهم‮. ‬أخطر ما في‮ ‬الأمر أن الولايات المتحدة ما زالت إلى اليوم‮ "‬تتلطى‮" ‬وراء هذه السلطة الهندية التي‮ ‬تسعفها بكل ما‮ ‬يلزمها للقضاء على البقية الباقية من هذه الشعوب الشقية‮.‬
نعم لقد أثرتُ‮ ‬مثل هذه الأفكار المقلِقة عن السلطة الهندية في‮ ‬كتابي‮ هذا وفي‮ ‬غيره،‮ ‬لكن هذا لا‮ ‬يعني،‮ ‬ولا‮ ‬يشير،‮ ‬ولا‮ ‬يفيد،‮ ‬ولا‮ ‬يوحي‮ ‬أبداً‮ ‬بالمقاربة التي‮ ‬تتحدّث عنها بين الشعب الفلسطيني‮ ‬والشعوب الهندية‮.‬

* في‮ ‬هذا الكتاب،‮ ‬إشارة قوية لما سبق وتناولته في‮ ‬كتبك السابقة مثل‮ "‬أميركا والإبادات الثقافية‮: ‬لعنة كنعان الإنكليزية‮" ‬وبعض مقالاتك،‮ ‬مثل‮ "محاولة لفهم أميركا‮"، ‬بأن إسرائيل لم تؤسس على‮ ‬يد هرتزل كما‮ ‬يشاع تاريخياً،‮ ‬وإنما بسبب العقلية الأنكلوسكسونية التي‮ ‬قامت دوماً‮ ‬على رؤية محددة تجاه السكان الأصليين‮ (‬الهنود الحمر،‮ ‬الإيرلنديين، ‬والفلسطينيين‮). ‬إلى أي‮ ‬مدى‮ ‬يمكن أن‮ ‬يعفي‮ ‬هذا التحليل إسرائيل بمؤسساتها العسكرية والسياسية من جرائمها،‮ ‬خصوصاً‮ ‬وأنه‮ ‬يمكن أن نفهم من الكتاب أن كل انتهاك إسرائيلي‮ ‬مرجعه حصراً‮ ‬الذهنية الأميركية،‮ ‬وليس الفكر الصهيوني،‮ ‬مثلاً‮؟

الكيان الصهيوني‮ ‬في‮ ‬أرض فلسطين جريمة ضدّ الانسانية تطال العدالةُ‮ ‬كلَّ‮ ‬من شارك في‮ ‬ارتكابها،‮ ‬أياً كان جنسه أو عرقه أو أصله أو دينه،‮ ‬وأياً‮ ‬كانت نسبة مساهمته في‮ ‬هذه الجريمة‮. ‬وهذا لا‮ ‬يتنافى أبداً‮ ‬مع الحقائق التاريخية التي‮ ‬تثبت أن الصهيونية الأنكلوسكسونية سبقت معظم أطروحات هرتزل وأحلامه وخططه واستوعبتها، وأضافت إليها كل أطروحات نهاية التاريخ القيامية،‮ ‬قبل أن تطول لحية هرتزل‮ بثلاثة قرون‮. ‬
‬لم‮ ‬يكن للصهيونية اليهودية أن تظهر تاريخياً‮ أبدًا ‬بالزخم، الذي‮ ‬ظهرت فيه في‮ ‬نهاية القرن التاسع عشر‮، ‬لولا أن صهيونية الإنكليز على طرفي‮ ‬المحيط الأطلسي‮ ‬حفلت بكل أحلام هرتزل منذ نهاية القرن السادس عشر‮. ‬مذذاك كانت لندن متحفاً‮ ‬وطنياً‮ ‬للصهيونية‮. ‬كان نضالها الطويل من أجل‮ "‬إعادة اليهود إلى أرض آبائهم‮" ‬قد علّم هرتزل بأن أوروبا، إذا لم تعرف المسألة اليهودية ولم تعرف شيئاً‮ ‬عن الصهيونية، فإن الإنكليز على طرفي‮ ‬المحيط لا بدّ أن‮ ‬يخلقوا شيئاً‮ ‬بهذا المعنى‮. ‬الإنكليز هم الذين أطلقوا مشروع هرتزل نفسه وترجموا أحلامه إلى سياسة عملية، وكانوا من أعظم أنصاره وجنرالات دولته‮. ‬وإذا كانت الصهيونية اليهودية تستهدف ما تسميه بأرض إسرائيل، فإن الصهيونية‮ ‬غير اليهودية تستهدف أرض إسرائيل وإسماعيل وإبراهيم جميعاً،‮ ‬بل إنها‮‬،‮ و‬لسخرية القدر،‮ ‬تستهدف اليهود أنفسهم في‮ ‬النهاية وتتبنى أبشع ما‮ ‬يدعى في‮ ‬التقليد الغربي‮ ‬بعداء السامية‮. ‬وقد فصلت هذه الأفكار في‮ ‬كتاب كامل هو‮ "‬تلمود العم سام"،‮ ‬أما من أراد المزيد فأنصح له بقراءة الأعمال الفلسفية لريتشارد بوبكين أحد أبرز مؤرّخي‮ ‬فلسفة عصر الأنوار‮.‬

* برأيك ماذا على الفلسطينيين اليوم أن‮ ‬يفعلوا ليجنبوا أنفسهم المصير الذي‮ ‬آل إليه أقوام الهنود الحمر؟

اسمح لي‮ ‬بملاحظتين سريعتين على هذا السؤال‮. ‬الأولى‮: ‬لقد تحدثنا قبل قليل عن مساوىء هذه المقاربة بين الشعب الفلسطيني‮ ‬والشعوب الهندية‮، إذ فيها ظلم‮ ‬للشعبين معاً‮. ‬ومع ذلك،‮ ‬إذا كان هناك إجماع على أن جلاد الهنود وجلاد الفلسطينيين واحد أو متطابق،‮ ‬فلا بدّ من قرع أسماع العالم كله بأن الضحيتين مختلفتان في‮ ‬التاريخ والجغرافيا والثقافة ونمط الحياة،‮ ومختلفتان بالتأكيد في‮ ‬حظهما من الانتصار‮. والثانية:‮ ‬لا أظن أن الشعب الفلسطيني‮ ‬الذي‮ قدّم‮ ‬دائماً‮ ‬نخباً‮ ‬استثنائية من المفكرين والمبدعين والأبطال‮ ‬يحتاج إلى واعظ مثلي‮. ‬أشعر بالخجل، ‬فعلاً،‮ ‬من الإجابة عن هذا السؤال‮. لو وجهت هذا السؤال لأي‮ ‬فلاح أو عامل أو لاجىء في‮ ‬مخيم، ‬كلهم سيقولون لك‮: ‬إن عدونا لن‮ ‬يرد لنا حبة رمل واحدة من بلادنا،‮ ‬طائعاً‮.‬

* لو أتيح لك أن تعد دراسة تحمل عنواناً‮ ‬مبشراً‮ ‬بانتصار الفلسطينيين،‮ ‬أي‮ ‬شعب تاريخي‮ ‬كنت ستختاره لتشبِّه الشعب الفلسطيني‮ ‬به؟

الشعب الفلسطيني‮ ‬نفسه‮.‬

* تقول إن المهاجرين الأوائل إلى أميركا،‮ ‬كانوا‮ ‬يسمون أنفسهم‮ "‬العبريين". ‬وعندما وصلوا إلى أميركا أطلقوا على الأرض الجديدة اسم‮ "بلاد كنعان‮" ‬و"صهيون‮" ‬و"أرض الميعاد‮". ‬ما دامت هذه التسمية على هذا القدر من المؤسساتية الدينية والرمزية‮، ‬وهي‮ ‬تسمية تربط بين كل أولئك الأعراق‮، ‬فلماذا لم تستمر هذه التسمية إلى‮ ‬يومنا هذا‮؟

من المؤكد أن اللغة اللاهوتية اختفت منذ زمن طويل من الخطاب الرسمي‮ ‬ومن المؤسسة الرسمية الأميركية‮. ‬أنت لا تسمعها اليوم إلا نادراً‮ ‬جدا‮. ‬قد تسمعها‮ ‬في‮ ‬زمن الحروب والشدائد على شكل رموز واستعارات‮. ‬ما بقي‮ ‬من هذه اللغة اللاهوتية الخاصة، معانيها التي‮ ‬تشكّل اليوم أساس الدين المدني‮ ‬في‮ ‬أميركا‮. ‬صحيح أن فكرة الدين المدني‮ ‬ترجع إلى جان جاك روسو،‮ ‬إلا أن تنظيرها أميركياً‮ ‬لم‮ ‬يتبلور إلا في‮ ‬ستينيات القرن الماضي‮ ‬على‮ ‬يد عالم الإجتماع روبرت بيللا‮. ‬فتنظيراته للدين المدني‮ ‬كانت محطة تاريخية في‮ ‬الدراسات الاجتماعية الأميركية‮. ‬أهم ما فيها أنها شكلت مدخلاً‮ ‬لفهم الوطنية‮ ‬Patriotism‮ ‬ في‮ ‬الولايات المتحدة‮. ‬الدين المدني‮ ‬كما‮ ‬يراه بيللا ومدرسته في‮ ‬علم الاجتماع، قائم على مجموعة معتقدات مقدّسة حول الأمة الأميركية وتاريخها ومستقبلها‮. ‬بيللا ومدرسته‮ ‬يرون أن هذا الدين‮ ‬يسكن الوطنية الأميركية ويعطيها معانيها وحماساتها‮. وهو ‬في‮ ‬نظرهم الذي‮ ‬أغنى الحياة الأميركية،‮ ‬على مدى عصورها، برموز وطقوس وأساطير وتطلعات وبارانويا‮ "‬العبرانية‮" ‬التي‮ ‬انتحلها المستعمرون الإنكليز الأوائل لأنفسهم،‮ ‬وأقاموا على أساسها مستعمراتهم التي‮ ‬تسمى اليوم بالولايات المتحدة‮. ‬
هذا الدين المدني‮ ‬الأميركي‮ ‬الذي‮ ‬يعبّر عن نفسه في‮ ‬مظاهر الوطنية الأميركية ليس لاهوتاً (‬حتى أنه‮ ‬يرفض اللاهوت بكل أشكاله) ‬وليس ديناً‮ ‬شعبياً،‮ ‬ولا بديلاً‮ ‬عن أي‮ ‬دين أو عقيدة‮. ‬إنه ظاهرة ثقافية أنثروبولوجية تشكّل الثقافة الوطنية للمجتمع الأميركي‮ ‬بمختلف أطيافه‮. ‬الدين المدني‮ ‬هو الدين الرسمي‮ ‬لكل أتباع الأديان ولكل الملحدين أيضاً‮. ‬إنه "الكتاب المقدّس‮ ‬غير المكتوب" للوطنية الأميركية‮. وهو‮ ‬يتضمن خمسة عناوين علمانية تختصر كل الأبعاد السياسية لفكرة أميركا المستنسخة من فكرة إسرائيل الأسطورية‮. ‬وهي‮ ‬: "المعنى الإسرائيلي‮ ‬لأميركا‮"،‮ ‬و"عقيدة الاختيار الإلهي‮ ‬أو التفوق العرقي‮ ‬والثقافي‮"‬،‮ ‬و"الدور الخلاصي‮ ‬للعالم‮"‬،‮ ‬و"قدرية التوسع اللا نهائي‮"‬،‮ ‬و"حق التضحية بالآخر‮".‬ المهم أن فكرة أميركا ظلّت تسلخ جلدها وتجدّد لغتها من عصر إلى عصر، ومن جيل لآخر، حتى استقرت اليوم في‮ ‬الوطنية الأميركية والدين المدني‮ ‬الأميركي‮.‬

* في‮ ‬أحد الحوارات معك، تشير بشكل عابر إلى وجود فرق‮ ‬بين‮ "‬دراسة أميركا‮" ‬و‮"‬دراسة التاريخ والأدب الأميركي‮". ‬هل لك أن توضح لنا هذا الفارق؟

إذا لم تخنّي‮ ‬الذاكرة فقد أشرت إلى ذلك في‮ ‬معرض الحديث عن حاجتنا إلى دراسات أميركية أكاديمية جادة‮. ‬وأظنني‮ ‬قلت إن جامعاتنا،‮ ‬وجامعاتنا الأميركية بشكل خاص،‮ ‬تكتفي‮ ‬من الدراسات الأميركية بالأدب والتاريخ‮. ‬أما الدراسات الأميركية فتشمل كثيراً‮ ‬من حقول المعرفة،‮ ‬كالفلسفة والدين والقانون وعلم الاجتماع‮ ‬والفن،‮ ‬والإعلام‮ ‬والجِندر،‮ ‬والإدارة،‮ ‬والعلوم العسكرية،‮ ‬والسياسة الخارجية،‮ ‬وما‮ ‬يسمى بالحضارة الأميركية‮. ومن المؤسف أن المثقفين والأكاديميين العرب في‮ ‬الولايات المتحدة، لم‮ ‬يولوا هذه الدراسات ما تستحقه من اهتمام‮. ‬أما في‮ ‬عالمنا العربي‮ ‬فلا أعرف جامعة تضم مناهجها برنامجاً‮ ‬جدياً‮ ‬لهذه الدراسات باللغة العربية،‮ ‬علماً‮ ‬بأن هناك إجماعًا ‬على مركزية أميركا في‮ ‬سياسة العالم، ووعياً‮ ‬متزايداً‮ ‬لخطرها على حاضرنا ومستقبلنا‮. هذا الغياب الرسمي‮ ‬والأكاديمي‮ ‬العربي‮ ‬عن الدراسات الأميركية هو الذي‮ ‬جعل الجو خالياً‮ ‬للتفسيرات السطحية التي‮ ‬تعتمد على كل ما‮ ‬يجدُ‮ ‬مصيره بعد‮ ‬يومين أو بعد أسبوع على أكثر تقدير في‮ ‬سلة المهملات.‮ ‬وهو الذي‮ ‬يفسر تخبّطنا المزري‮ ‬في‮ ‬فهم أميركا‮. ‬لقد ذررتنا ثقافة‮ "‬الميديا‮" ‬ورمت عقولنا في‮ ‬بحر هائج من المتاهات‮، ‬لا لسبب سوى أننا ظننا بأنها تعوضنا عن‮ ‬كل ما‮ ‬ينفذ عميقاً‮ ‬في‮ ‬الذاكرة الانسانية‮ ‬Perennial‮.‬

* إلى أي‮ ‬قارىء موجهة دراساتك؛ الأميركي،‮ ‬أم العربي،‮ ‬أم الفلسطيني؟ وما تأثيرها على النظام الأكاديمي‮ ‬الأميركي؟ أتعتقد أنه سيكون لها دور في‮ ‬تطلع الأميركيين بجدية ومسؤولية أكبر إلى تاريخهم من زاوية‮ "‬الحقيقة‮" ‬المختلفة تمامًا عن الحقائق التي‮ ‬روّجها سيدهم المنتصر‮؟

أنا عربي،‮ ‬سوري‮ ‬بالمولد،‮ ‬وفلسطيني‮ ‬بالاختيار‮. ‬ولا‮ ‬يعنيني‮ ‬في‮ ‬عملي‮ ‬إلا القضية المركزية لأمتنا العربية‮: ‬فلسطين‮. ‬منذ أن تفتحت مداركي‮ ‬الأولى وأنا على قناعة بأن لكل ما جرى ويجري‮ ‬في‮ ‬سماء هذه المنطقة وبرّها وبحرها وباطن أرضها،على علاقة بهذه القضية‮. ‬وأنا على قناعة بأننا‮ ‬بدون تحريرها ستظلّ جهودنا في‮ ‬البناء الاجتماعي‮ ‬كغزل بينلوب‮. ‬ولذا ينطلق عملي ‬في‮ ‬الدراسات الأميركية‮، منها ويدور في‮ ‬فلكها‮. ‬وما‮ ‬يعنيني‮ ‬منه، وضع مسلمات ومفاهيم جديدة وتثبيتها‮ ‬في‮ ‬الذهن، بضخ أكبر قدر ممكن من القرائن والأدلة والمعلومات الجديدة جداً على القارىء‮. ‬لهذا‮ ‬يستغرب بعض القراء إلحاحي‮ ‬وتكراري‮ ‬لبعض هذه المفاهيم والمسلمات‮. ‬وما‮ ‬يهمني‮ ‬فوق ذلك كله هو خلق‮ "‬ملكة حكم‮" ‬Faculty of judgment‮ ‬لا تضل وتحتار وتتناقض، كلّما جدّ تفصيل هنا أو حادث عابر هناك‮. ‬
عندما كنت طفلاً،‮ ‬كان والدي‮ ‬يرسلني‮ ‬في‮ ‬بعض عطل الصيف إلى الكُتّاب ليعلمنا الشيخُ أمورَ الدين‮. ‬و‬كان هذا الشيخ البسيط‮ ‬يعلمنا إلى جانب القرآن والحديث والفقه ما‮ ‬يسمى بالإيساغوجي،‮ ‬وهي‮ ‬رسالة في‮ ‬المنطق للمبتدئين، عرفتُ‮ ‬لاحقاً‮ ‬أنها مترجمة عن اليونانية‮. ‬وكان الشيخ،‮ ‬يُبَسّطها لنا لنعرف ما هو‮ "المفرد‮" ‬وما هو‮ "‬الكلي‮" ‬وما هو‮ "‬الذاتي‮"،‮ ‬ونتعلم أنواع‮ "‬الحدود‮" ‬و"القياس‮" ‬و"البرهان‮". ‬وكان‮ ‬يقول لنا عندما ننتهي‮ ‬من الدرس أو ما‮ ‬يسميه‮ "‬الختمة‮": ‬هذه هي‮ "‬المضغة‮" ‬التي‮ ‬لن تضل عقولكم بعدها في‮ ‬الحكم على الأشياء‮. ‬لم‮ ‬يكن الشيخ‮ ‬يعرف شيئاً‮ ‬عن كانط،‮ ‬لكن‮ "‬ملكة الحكم‮" ‬التي‮ ‬أحاول صياغتها في‮ ‬كتبي‮ ‬الأميركية هي،‮ ‬حرفياً،‮ ‬التعبير الكانطي‮ ‬عن اصطلاح‮ "المضغة‮" ‬التي‮ ‬صاغها لنا الشيخ‮. ‬وبملكة الحكم هذه،‮ ‬وما‮ ‬يرفدها من مسلمات ومفاهيم ومعلومات جديدة،‮ ‬أرجو أن لا تضل عقول القرّاء بعدها في‮ ‬الحكم على أميركا، مهما تغيرت التفاصيل والأشخاص والأحداث‮. ‬

* في‮ ‬مقدمة المختارات التي‮ ‬ترجمتها لقصائد محمود درويش‮ ‬The Adam of Two Edens‮ ‬تقول حرفياً‮ ‬إن الحداثة لدى روّاد مجلة "شعر" كانت ملتبسة بالصرعة‮. ‬ألا تعتبر أن الاعتبارات النقدية،‮ ‬التي‮ ‬تحكم بها على هؤلاء الشعراء،‮ ‬تتجاهل الظروف السياسية والموقف الثقافي‮ ‬والجمالي‮ ‬العام، ‬كما لو أنك تخرجهم من حقبة تاريخية ما،‮ ‬وتحاكمهم نقدياً‮ ‬وجمالياً‮ ‬وفق اعتبارات مستقبلية،‮ ‬استشرافية،‮ ‬لا علاقة لها بما عاشوه‮؟

وما الغلط؟ هل‮ ‬وظيفة‮ "‬الناقد‮" ‬أن‮ ‬يكون حاشية على النص؟‮ ‬لماذا لا‮ ‬يكون مبدعاً،‮ ‬رؤياوياً‮‬،‮ ‬يفتح للمبدع آفاقاً‮ ‬جديدة ويعينه على إبداع المدهش وتجاوز الجاهز والمكرر؟ ولم لا‮ ‬يكون النقد كالإبداع مغامرة دائمة مع الكشف والجموح بزاوية النظر وأفق الحساسية؟ معظم الأمم ذات التراث الشعري‮ الخالد كان لها منظِّرون مبدعون،‮ ‬وكان لها فلاسفة مبدعون أغنوا تراثهم وتراث الإنسانية بكتبهم في‮ "فن الشعر‮". ‬العرب في‮ ظنّي‮ ‬من أغنى أمم الأرض شعراً،‮ ‬ولعلها الأكثر إبداعاً‮ ‬فيه‮. ‬هل وضع لها فيلسوف أو ناقد مبدع كتاباً‮ ‬في‮ "‬فن الشعر‮" ‬العربي‮ ‬كما فعل أرسطو وفعل هوراس مثلًا؟ صدقني‮ ‬أن أعظم طموحاتي‮ ‬قبل سفري‮ ‬إلى أميركا و"ابتلائي"‮ ‬بما أكتبه عنها،‮ ‬كان عملاً‮ ‬من هذا القبيل‮. ‬وقد كان كتابي‮ "‬أسئلة الشعر‮" ‬ومحاوراتي‮ ‬مع شعراء الحداثة مجرد فاتحة لذلك الطموح‮. ‬ومع ذلك فإنني‮ ‬ما زلت إلى الآن أحلم بأن‮ ‬يسمح لي‮ ‬الزمان بفرصة لكتابة هذا العمل‮.‬
أما بالنسبة لما ذكرته عن مجلة "شعر" والتباس روادها بالصرعة،‮ ‬فهذا‮ ‬يعود‮ ‬لوقوعها في‮ ‬هاوية التقليد،‮ ‬أي‮ ‬في‮ ‬ما قامت الحركة أصلاً‮ ‬لمناهضته‮. ‬وقد سيقت إلى هذه الهاوية، عن قصد أو‮ ‬غير قصد، عندما عملت على ترسيخ الاتجاه الشكلي‮ ‬في‮ ‬القصيدة الحديثة‮. ‬صار الشكل،‮ ‬واللعب بالشكل،‮ ‬واللعب باللعب‮ ‬موضوعات شعرية وقيماً‮ ‬إبداعية خالصة‮. ‬وصار التفنن في‮ ‬هندسة القصيدة معياراً‮ ‬إبداعياً‮‬،‮ ‬وهذا ما أغرق الحركة في‮ "‬الذهنية‮" ‬التي‮ ‬قال الروّاد إنهم‮ ‬يريدون إلغاءها من عالم الشعر‮.‬
وقد‮ ‬كتبت في‮ ‬أوائل السبعينيات هذه الملاحظات في‮ ‬مقالة بعنوان "العودة إلى عصر الانحطاط‮"، ‬وقلت إن‮ "‬شعر‮" ‬كانت تستعير شيخوخة الحضارة لجسد بدوي‮ ‬متخلف‮. ‬طبعاً‮ ‬لا أذكر ما كتبته حرفياً،‮ ‬لكنني‮ ‬ذكرت أن حركة "شعر"،‮ ‬جرياً‮ ‬وراء الصرعة،‮ ‬أوقعت الحداثة الشعرية في‮ ‬مفهوم اللعب الذي‮ ‬شاع في‮ ‬عصور الانحطاط‮. ‬وأذكر أنني‮ ‬نشرت مع المقالة‮ ‬نماذج من قصائد وُصفت بأنها من شعر‮ ‬الـ"كونكريت" "‮"‬Concrete Poetry،‮ ‬ونشرتُ‮ ‬مقابلها قصائد‮ مماثلة من عصور الانحطاط أثارت‮ ‬غضب الشاعر ‬يوسف الخال‮.‬

* تقول إن مسيرة درويش في‮ ‬الستينيات وأوائل السبعينيات تعني‮ ‬تفكيكه‮ "العامل الخارجي‮ ‬الطارىء‮" ‬وتوكيده على‮ "الجوهر الباقي‮". ‬ألا ترى أن الشاعر لا‮ ‬يستطيع كتابة قصيدة، مهما كان العامل الخارجي‮ ‬طارئاً‮، ‬إلا بجوهره الشعري‮؟ ‬و‬ألا‮ ‬يمكننا عدّ كل مرحلة تاريخية بحد ذاتها، ‬مجرد عامل خارجي‮ ‬طارىء؟‮. ‬وهذا العامل لا بدّ أن‮ ‬يترك مخلفاته وشواهده ولغته في‮ ‬النص الشعري‮ ‬والفنون عموماً،‮ ‬ويؤسس وإن مؤقتاً،‮ ‬لمستوى وطريقة في‮ ‬النظر إلى جماليات فن ما‮. ‬ما‮ ‬يبطل محاكمة النص الشعري‮ ‬نقدياً،‮ ‬بعزله عن سياقه التاريخي.

لهذا اللبس قصة طويلة سأحاول اختصارها. قبل عدة أشهر من وصول محمود درويش إلى بيروت عام‮‬1971‮ ‬،‮ ‬كتبت في‮ ‬مجلة أسبوعية مقالة صحافية بعنوان‮ "‬شعراء بالمصادفة‮"‬،‮ ‬وذكرت اسمه فيمن ذكرت،‮ ‬وقلت إن القضية الفلسطينية هي‮ ‬التي‮ ‬صنعت من محمود درويش نجماً‮.‬ كنت يومها من أسرة تحرير‮ "‬مواقف‮"، ‬التي‮ ‬يترأسها الشاعر أدونيس‮. ‬وأذكر أننا احتفلنا بوصول درويش إلى بيروت لأوّل مرة في‮ ‬بيت أدونيس‮. ‬وقد كتبتُ عن هذا في‮ ‬المقدمة التي‮ ‬أشرتَ‮ ‬إليها‮. ‬ما لم أكتبه هو أن محمود اطلع‮ (‬لا أعرف كيف‮) ‬على ما كتبته في‮ ‬مجلة الأحد،‮ ‬فأخذني‮ ‬جانباً‮ ‬ونحن نودعه على باب البيت وعاتبني‮ ‬بتهذيب محرج جداً‮.‬ في‮ ‬تلك الفترة بالذات أجريت معه لقاءً وسألته عما سألتَني‮ ‬عنه‮. وكتبت عن ذلك في "أسئلة الشعر" حيث ‬سألتُه‮: ‬ألا تعتقد معي‮ ‬أن صفات محمود درويش أكبر من ذاته؟ أليست المصادفة وحدها هي‮ ‬التي‮ ‬خلقت هذا الاسم الكبير؟ تصور أنك ولدت في‮ ‬مكان آخر‮ ‬غير الوطن المحتل،‮ ‬ألن‮ ‬يكون لك وزن آخر في‮ ‬الشعر العربي؟ فقال لي :"كل إنتاج صدفة،‮ ‬ونتاج مجموعة من مصادفات بشكل عام‮. ‬ولكن عند هذا الحد‮ ‬يكف الإنسان عن أن‮ ‬يكون هو عندما‮ ‬ينتهي‮ ‬مفعول الصدفة"‮.‬ فسألتُه‮: ‬كيف تخرج من المصادفة إلى نفسك،‮ ‬ومن صفاتك المستعارة إلى ذاتك؟ كيف‮ ‬يمكن أن تستغل هذه المصادفة لا أن تكون أسيراً‮ ‬لها؟، فأجاب :"أدمت الاعتراف بأن المصادفات أو الظروف‮ (الصدفية) ‬ساهمتْ في‮ ‬خلق ما أسعى دائماً‮ ‬إلى التحرر منه‮. ‬لا أريد أن أطفو على الصدفة‮. ‬أريد أن أتجاوزها بقوة أخرى،‮ ‬قد تكون موجودة،‮ ‬وقد لا تكون‮. لكنني‮ ‬أوّل متضرر من حصري‮ ‬في‮ ‬هذه المصادفة،‮ ‬وأوّل متمرد عليها،‮ ‬وأوّل من أعلن الاعتراف بها‮. ‬إنني‮ ‬أطمح إلى أن أصدّق بأن الصدفة لم تخلقني‮ ‬وحدها،‮ ‬ولكنها عجلت عمر وصولي‮ ‬إلى الناس‮. ‬لقد سهلت عملية تقديم نفسي‮ ‬وتنميتي‮. ‬وهنا نلاحظ مفارقة‮ ‬غريبة‮: ‬إنني‮ ‬مدين للمصادفة ولكنني‮ ‬متمرد عليها‮." فقلت : وكيف؟ فأجاب :"‬بالبحث عن القوة الذاتية الموجودة فيّ،‮ ‬إذا كانت موجودة فعلاً،‮ ‬أي‮ ‬بالنسف المستمر للعامل الخارجي‮ ‬الطارىء وتعميق الجوهر الباقي‮".

* رغم أنها اعتُبرت المحاولة الأولى والأكثر جدية في‮ ‬تقديم محمود درويش إلى القارىء الغربي،‮ ‬إلا أن‮ "‬آدم الجنتين ‮" ‬The Adam of Two Edens‮ ‬ لاقى انتقادات،‮ ‬منها ما‮ ‬يتعلق بالكيفية والاعتبارات الشعرية والجمالية التي‮ ‬حكمت انتقاء القصائد في‮ ‬المختارات المذكورة‮. ‬فما الأساس الذي‮ ‬اخترت وفقه القصائد‮؟ ‬ألا‮ ‬يعني‮ ‬اقتصارها على مرحلة بداية السبعينيات تتضمن شيئاً‮ ‬من الظلم في ما‮ ‬يخص تجربته الشعرية السابقة‮. ‬خصوصاً‮ ‬وأن درويش عبر في‮ ‬أسلوبه بمفترقات شعرية، في دواوين منها : "‬أحبك أو لا أحبك‮"و"‬مديح الظل العالي‮" و"‬أحد عشر كوكباً‮" ‬و"‬لماذا تركت الحصان وحيداً‮"؟

كان محمود من مؤسسي‮ ‬مجلة "جسور" ‬التي‮ ‬أصدرتُها في‮ ‬واشنطن،‮ ‬ومن أبرز أعضاء تحريرها‮. ‬وكنت قد اتفقت معه على أن ننشر قصيدة له أو أكثر في‮ ‬كل عدد،‮ ‬بالعربية والإنكليزية‮. ‬كل القصائد التي‮ ‬نشرت كانت من اختياره‮. ‬وكان‮ ‬يرسلها لي‮ بخط‮ ‬يده عبر الفاكس‮. ‬وما زلت أحتفظ بها، رغم هشاشة أوراق فاكس ذلك الزمان‮. وفي‮ ‬أواخر‮ ‬8991‮ ‬اتفقنا على جمع هذه القصائد المترجمة في‮ ‬مجموعة تكون فاتحة لترجمة أعماله في‮ ‬الولايات المتحدة‮، ‬وهكذا كان. الغريب أنني‮ ‬في‮ ‬صفحة‮ "‬تقدير واعتراف‮" ‬التي‮ ‬تتصدر المجموعة، ذكرتُ أن كل القصائد نشرت أول ما نشرت في‮ ‬"جسور"،‮ ‬وفي‮ ‬أعداد مختلفة،‮ ‬وأن الشاعر هو الذي‮ ‬أشرف على اختيارها بنفسه‮. ‬لكن لست أدري‮ ‬كيف يقرأ بعض النقاد‮ سطراً‮ ‬ويقفزون فوق آخر‮.‬
المساهمون