في قاعة صغيرة لا تتجاوز الخمسة عشر مترًا مربعًا، في شقة صغيرة في الرباط، معروفة باسم الشقة 22، وعلى المقاعد البسيطة، جمهورٌ صغير يشاهد أعمال فيديو للفنانة اللبنانية منيرة الصلح. جمهور محظوظ لسببين : أولًا، لأن تواتر الأعمال الفنية المعاصرة وعيانيتها صارا أصعب من مشاهدة اللوحات، التي يمكن تصويرها وتداولها في الكتب والإنترنت. وثانيًا، لأنك تشاهد أعمالًا تشدك إليها أكثر مما يشدك الفيلم السينمائي.
منيرة الصلح من الفنانات العربيات المعاصرات الأكثر طليعية ومغامرة واستكشافًا للتخوم. ومن غير المهم هنا، وجودها في الجانب "الجندري" الذي تفككه بطريقة يندر العثور على مثلها لدى الكاتبات والفنانات العربيات، ولا الجانب النسوي الذي صار لدى فنانات كثيرات عملة صعبة لتجاوز الحدود من دون تأشيرة فنية حقيقية، فالمهم تلك النبرة التي تسعى عبرها منيرة إلى صياغة عالمها البصري عبر وسائط متعددة تتراوح بين المَنشأة الفنية (Installation) والفيديو والرسم والإخراج السينوغرافي.
اقرأ أيضًا : الفن الإفريقي يعانق رحابة العالمية
الفنانون المعاصرون أكثر حظًا من السينمائيين في التعامل مع الصورة. فإذا كان السينمائي، سواءٌ أكان صانع التخييل الروائي، أم صانع الفرجة التسجيلية، يخضع غالبًا لقواعد الفرجة وحدودها، فإن فنان الفيديو يشتغل وفقًا لحرية شبه مطلقة، تجعل علاقته بالصورة علاقة غرابة، يستدعي فيها ممكناتها ليحوّرها ويطوّعها لرغباته. تنتفي عن أغلب أعمال الفيديو صفة الفيلم السينمائي، لكونها تفيض عن القواعد وتخضع للذات وللحظيتها أحيانًا وللفكرة أخرى، وللاستيهامات التخيلية أحيانًا ثالثة.
هكذا نرى في أعمال منيرة طابعًا "نموذجيًا" للفيديو آرت، يمكن أن يشكّل محطات أساسية في بناء مشروعية هذا الفن الذي لم يجد بعد مكانه في المتخيّل الفني العربي، مقارنة مع المَنشأة الفنية (Installation) وطابعها التركيبي. تستقي منيرة هذه "النموذجية" من كونها تمتح من ذاتها كل ما يمكّنها من بناء اللحظة البصرية في طابعها المتراكب والمتسلسل والمرآوي والعمودي. هذه العلاقة بالذات هي التي تجعل التجربة البصرية للفيديو قريبة من سينما الذات، كما لدى وودي آلان وجان لوك غودار وآلان روب غرييه. إنها التجربة التي تحول التفاصيل إلى تخييل ومتخيل، وتجعلنا أحيانًا نثق في الواقعية المفترضة لتهويمات تبتكرها الفنانة وكأنها حالات مثالية؛ حسن نصر الله يناقش الألوان في لوحة لفرانسيس بيكون!
اقرأ أيضًا: أعمال فنية تنتهي في القمامة
ثمة مَسْرحَة مضاعفة ودائمة في أعمال منيرة، تأتيها مباشرة من مجموعة من المصادر التي تخترقها وكأنها تشكل جلدتها: ثمة ذاكرتها التي تحملها منذ نشأتها في لبنان الحروب، وثمة نشأتها واكتمال وعيها، وثمة هجرتها. إنها علامات ومفاصل، تجعل الفنانة تفكّر العالم بعينها وأكثر فأكثر بجسدها الشخصي ومن ثم بحسها وصوتها ولغتها ويدها. هذه البنية التي تجسد كينونتها الفنية هي الـ Rhizome (أي الشبكة المفهومية حسب جيل دولوز) التي تبلور توجهاتها.
عند مشاهدة أعمالها بالفيديو وبالمَنشأة (Installation)، نقع تحت فتنة الغنى الداخلي الذي من خلاله تنظر منيرة إلى العالم حولها. ونظرتها من اليقظة بحيث يصبح جسدها كله عيونًا، وعيونها مِجسّات لحرارة المحيط وبرودته وأحداثه. ربما هذا ما يفسر تلك القوّة المفتونة بالهشاشة، وعشق الأفق والبحر، والقدرة على التقاط التفاصيل وتحويلها إلى حكاية. يكفي أن تقع منيرة على ما يشدّ انتباهها كي تحوله إلى حكاية. ويكفي أن يقف شخص أمام كاميرتها كي يكون حكاية. إنها شهرزاد بصرية، تترجم المرئي إلى لغوي واللغوي إلى مرئي، بالكثير من الحب والألفة والرقة واليقظة.
البحر، والذاكرة الطفولية، واللعب، والشغب، تلك بعض "الثوابت" التي نسْتجليها من تجربتها. بل هذا ما تنبئ عنه أعمالها عن الرجال والبحر، حيث يتحول الوقوف أمام العدسة إلى قراءة شفافة لعلاقات حميمة مع البحر ورجاله الذين يعشقون شمسه وهواءه ويديرون ظهرهم للمدينة. وحين نشاهد عملها عن الهامبرغر والتحولات، كما حواراتها الأخرى نشهد تلك التغيرات من خلال جعل الحوارات مجالًا لاستبيان العادي والمملّ والعرضي والتافه، ليتحول إلى مكوّن في عملية تتقنها جيدًا منيرة: السخرية.
بيد أن الانتقال من المرح والمزاح واللعب بالكلمات، إلى إنتاج اللحظة الساخرة يتم من خلال التحويل الجذري، أي تغيير معالم المرئي بقوة الإيحاء واللامرئي. هكذا يغدو الجسد الشخصي كما جسد الآخر مكونًا أساسًا في اللعبة الفنية. فالجسد الشخصي ينكشف في شط نهر البلد المضيف كي يعلن عن اندماجه فيه، وهو يتقمص شخصيات وحيوانات أليفة كي يمتح منها معبرًا للوصول إلى المعنى. وتغدو الحوارات أشبه بلعبة فراغ وامتلاء، يتملّك فيها الصوت الشخصي كلام الآخر، فتصير الشخصيات المحاوَرة متشاكلة ومسكونة بصوت الفنانة. أما حين تغدو الكلمات عبارة عن تصحيفات فإن أصواتها تتغير وتنقلب، لتعبّر منيرة من خلالها عن كون التأْتأة والتعبير التلاعبي، أقرب للمعنى الطفولي الذي تحمله، شاهرةً إياه ضد الحرب والتهجير، وضد كل ما يحول الإنسان إلى كيان مجهول المصير والهوية والأفق.
من المَنشأة - الفيديو إلى الرسوم - المَنشأة، التي تستعيد فيها منيرة هجرة السوريين إلى لبنان، مرورًا بكل القضايا التي تحملها في جسدها ومسامها، ثمة هوس بالتفاصيل، باعتبارها منفذًا لكل القضايا الكبيرة. هوسٌ هو أيضًا عشق لليومي والحياتي وانسكاب في مجرياته ونهل من مشاربه. لكأن الفنانة تبني تجربتها، في تعدديتها واختلاف ممكناتها، على مبدأ المفارقة، الذي يجعل من نظرتها للأشياء ممْهورة دوما بنكهة ساخرة؛ تلك النكهة التي تجعل من أعمالها فضاءات تستكشف مجهول الوجود العربي وتمنح الحق في الاعتراف بالهشاشة.
اقرأ أيضًا : شيرين نشأت، المعبر
اقرأ أيضًا : الفن الإفريقي يعانق رحابة العالمية
الفنانون المعاصرون أكثر حظًا من السينمائيين في التعامل مع الصورة. فإذا كان السينمائي، سواءٌ أكان صانع التخييل الروائي، أم صانع الفرجة التسجيلية، يخضع غالبًا لقواعد الفرجة وحدودها، فإن فنان الفيديو يشتغل وفقًا لحرية شبه مطلقة، تجعل علاقته بالصورة علاقة غرابة، يستدعي فيها ممكناتها ليحوّرها ويطوّعها لرغباته. تنتفي عن أغلب أعمال الفيديو صفة الفيلم السينمائي، لكونها تفيض عن القواعد وتخضع للذات وللحظيتها أحيانًا وللفكرة أخرى، وللاستيهامات التخيلية أحيانًا ثالثة.
هكذا نرى في أعمال منيرة طابعًا "نموذجيًا" للفيديو آرت، يمكن أن يشكّل محطات أساسية في بناء مشروعية هذا الفن الذي لم يجد بعد مكانه في المتخيّل الفني العربي، مقارنة مع المَنشأة الفنية (Installation) وطابعها التركيبي. تستقي منيرة هذه "النموذجية" من كونها تمتح من ذاتها كل ما يمكّنها من بناء اللحظة البصرية في طابعها المتراكب والمتسلسل والمرآوي والعمودي. هذه العلاقة بالذات هي التي تجعل التجربة البصرية للفيديو قريبة من سينما الذات، كما لدى وودي آلان وجان لوك غودار وآلان روب غرييه. إنها التجربة التي تحول التفاصيل إلى تخييل ومتخيل، وتجعلنا أحيانًا نثق في الواقعية المفترضة لتهويمات تبتكرها الفنانة وكأنها حالات مثالية؛ حسن نصر الله يناقش الألوان في لوحة لفرانسيس بيكون!
اقرأ أيضًا: أعمال فنية تنتهي في القمامة
ثمة مَسْرحَة مضاعفة ودائمة في أعمال منيرة، تأتيها مباشرة من مجموعة من المصادر التي تخترقها وكأنها تشكل جلدتها: ثمة ذاكرتها التي تحملها منذ نشأتها في لبنان الحروب، وثمة نشأتها واكتمال وعيها، وثمة هجرتها. إنها علامات ومفاصل، تجعل الفنانة تفكّر العالم بعينها وأكثر فأكثر بجسدها الشخصي ومن ثم بحسها وصوتها ولغتها ويدها. هذه البنية التي تجسد كينونتها الفنية هي الـ Rhizome (أي الشبكة المفهومية حسب جيل دولوز) التي تبلور توجهاتها.
عند مشاهدة أعمالها بالفيديو وبالمَنشأة (Installation)، نقع تحت فتنة الغنى الداخلي الذي من خلاله تنظر منيرة إلى العالم حولها. ونظرتها من اليقظة بحيث يصبح جسدها كله عيونًا، وعيونها مِجسّات لحرارة المحيط وبرودته وأحداثه. ربما هذا ما يفسر تلك القوّة المفتونة بالهشاشة، وعشق الأفق والبحر، والقدرة على التقاط التفاصيل وتحويلها إلى حكاية. يكفي أن تقع منيرة على ما يشدّ انتباهها كي تحوله إلى حكاية. ويكفي أن يقف شخص أمام كاميرتها كي يكون حكاية. إنها شهرزاد بصرية، تترجم المرئي إلى لغوي واللغوي إلى مرئي، بالكثير من الحب والألفة والرقة واليقظة.
البحر، والذاكرة الطفولية، واللعب، والشغب، تلك بعض "الثوابت" التي نسْتجليها من تجربتها. بل هذا ما تنبئ عنه أعمالها عن الرجال والبحر، حيث يتحول الوقوف أمام العدسة إلى قراءة شفافة لعلاقات حميمة مع البحر ورجاله الذين يعشقون شمسه وهواءه ويديرون ظهرهم للمدينة. وحين نشاهد عملها عن الهامبرغر والتحولات، كما حواراتها الأخرى نشهد تلك التغيرات من خلال جعل الحوارات مجالًا لاستبيان العادي والمملّ والعرضي والتافه، ليتحول إلى مكوّن في عملية تتقنها جيدًا منيرة: السخرية.
بيد أن الانتقال من المرح والمزاح واللعب بالكلمات، إلى إنتاج اللحظة الساخرة يتم من خلال التحويل الجذري، أي تغيير معالم المرئي بقوة الإيحاء واللامرئي. هكذا يغدو الجسد الشخصي كما جسد الآخر مكونًا أساسًا في اللعبة الفنية. فالجسد الشخصي ينكشف في شط نهر البلد المضيف كي يعلن عن اندماجه فيه، وهو يتقمص شخصيات وحيوانات أليفة كي يمتح منها معبرًا للوصول إلى المعنى. وتغدو الحوارات أشبه بلعبة فراغ وامتلاء، يتملّك فيها الصوت الشخصي كلام الآخر، فتصير الشخصيات المحاوَرة متشاكلة ومسكونة بصوت الفنانة. أما حين تغدو الكلمات عبارة عن تصحيفات فإن أصواتها تتغير وتنقلب، لتعبّر منيرة من خلالها عن كون التأْتأة والتعبير التلاعبي، أقرب للمعنى الطفولي الذي تحمله، شاهرةً إياه ضد الحرب والتهجير، وضد كل ما يحول الإنسان إلى كيان مجهول المصير والهوية والأفق.
من المَنشأة - الفيديو إلى الرسوم - المَنشأة، التي تستعيد فيها منيرة هجرة السوريين إلى لبنان، مرورًا بكل القضايا التي تحملها في جسدها ومسامها، ثمة هوس بالتفاصيل، باعتبارها منفذًا لكل القضايا الكبيرة. هوسٌ هو أيضًا عشق لليومي والحياتي وانسكاب في مجرياته ونهل من مشاربه. لكأن الفنانة تبني تجربتها، في تعدديتها واختلاف ممكناتها، على مبدأ المفارقة، الذي يجعل من نظرتها للأشياء ممْهورة دوما بنكهة ساخرة؛ تلك النكهة التي تجعل من أعمالها فضاءات تستكشف مجهول الوجود العربي وتمنح الحق في الاعتراف بالهشاشة.
اقرأ أيضًا : شيرين نشأت، المعبر