الأصدقاء الثلاثة احتضنتهم قريتهم دير أبو مشعل، غرب رام الله، وسط الضفة الغربية، عاشوا معًا، واستشهدوا معًا برصاص قوات الاحتلال الإسرائيلي، عقب عملية نفذوها في قلب مدينة القدس المحتلة، قتلوا وأصابوا خلالها جنوداً إسرائيليين عدة، قبل دقائق من موعد إفطار يوم أمس الجمعة، الحادي والعشرين من شهر رمضان المبارك.
كان الثلاثة محبوبين من أهالي قريتهم دير أبو مشعل، ملتزمين دينيًّا، يرتادون المسجد ويؤدون الصلوات دومًا، ويتمتعون بالهدوء والأخلاق الحميدة، كل من عرفهم يحبهم: "لا يؤذون أحدًا"، تقول عائلاتهم.
الشاب عادل حسن عنكوش اتصل بأحد أشقائه قبل دقائق من استشهاده، وطلب منه، بشكل ضروري، أن يسدد ديناً له لأحد أهالي البلدة، وأن قيمة الدين 5 شيقل فقط (ما يعادل دولاراً ونصف الدولار)، لكن العائلة لم تكن تعرف أن هذا الاتصال سيكون الأخير لعادل.
يوضح طارق عنكوش، شقيق الشهيد عادل، لـ"العربي الجديد"، أن العائلة حاولت الاتصال به مجدّدًا، لكن هاتفه النقال ظلّ مغلقًا، إلى أن وصل خبر استشهاده.
قبل يومين من مغادرته القرية مع صديقيه متوجهًا إلى القدس، كان الموعد الأخير لرؤية عادل بالنسبة لطارق. تناول عادل طعام الإفطار حينها لدى شقيقه وشرب القهوة وكان آخر لقاء بينهما.
أما عادل، فكان يوم الجمعة، وحتى قبل دقائق من استشهاده، يتصرف بشكل اعتيادي، وكانت والدته وشقيقاته معه في الأقصى، وبعدها لم يرينه. لكن الصاعقة للعائلة أن عادل استشهد في منطقة باب العامود من القدس؛ ليس بعيدًا عن المسجد الأقصى، وعن مكان أمه، والتي كانت لحظتها لا تزال هناك، قبل أن يبلغها ابنها طارق بالأمر لدى وصولها حاجز قلنديا العسكري شمال القدس.
كان عادل يتمتع بأخلاق عالية، محبوبًا من الجميع، وهو، على الرغم من أنه في بداية شبابه كان واعيًا بكل ما يفعل. ظلّ متفوقًا في دراسته، لكن مرض والده قبل 4 سنوات، وإصابته بجلطة، دفعه لترك المدرسة ولم يعد قادرًا على إكمال الدراسة، وعمل في التمديدات الصحية "مواسرجي"، وعلى الرغم من ذلك فإنه شاب كأي شاب فلسطيني أحب الحياة وأحب تأسيس أسرة.
طارق الذي اكتوى بعذابات الاحتلال، بعد اعتقاله وهو طفل في الرابعة عشرة من عمره، قبل 18 عاماً، بتهمة إصابة أحد أطفال المستوطنين بالحجارة، وإلقاء زجاجات حارقة باتجاه مركبات المستوطنين، وتمت محاكمته وخمسة من أبناء قريته بالتهمة ذاتها لمدد تراوح بين 6 إلى 8 سنوات، يدرك أنه ما دام هناك احتلال يتعامل مع الفلسطينيين بهذا الشكل، فإن كل جيل ناشئ سيتأثر بما يشاهده من إجرام وتنكيل، ويقول: "حينما سجنت مع 5 من أطفال القرية، كان الاحتلال يتعامل معنا وكأننا مجرمون، لذا فهذا الاحتلال ثقافته العنف، والعالم يعرف هذا، لكنه لا يستطيع الكلام".
براء إبراهيم صالح عطا، وهو أسير محرر من سجون الاحتلال بتهمة رشق جنود الاحتلال ومركبات المستوطنين بالحجارة، أفرج عنه العام الماضي، بعد أن أمضى شهوراً عدة هناك، كان ضمن الفدائيين الثلاثة في العملية؛ لم يفارق وأصدقاءه المسجد في الآونة الأخيرة، وهو محبوب من الجميع، ويتمتع بالهدوء، وقد اختار في الذهاب إلى الأقصى ألا يخبر عائلته بذلك، كما يقول ابن عم الشهيد براء، وائل صالح عطا، لـ"العربي الجديد".
في المسجد الأقصى، التقى براء، يوم الجمعة، بالعديد من أبناء قريته، وطلب منهم أن يسلموا على الجميع، ولم يكن أحد يعرف أن براء سيكون فدائيًّا في قلب مدينة القدس في يوم من الأيام، على الرغم مما عاناه داخل سجون الاحتلال، وما زالت العائلة مصدومة ولا تصدق ما جرى.
شأن براء في الاعتقال كشأن شقيقه الأسير محمد، الموجود حاليًّا داخل سجون الاحتلال، فيما لن تتمكن العائلة، بعد استشهاد ابنها، من إتمام مراسم زفاف نجلها الجريح نضال الشهر القادم، والذي أصيب قبل خمس سنوات برصاص الاحتلال خلال مواجهات شهدها الشارع الالتفافي الاستيطاني المحاذي للبلدة.
في باحات المسجد الأقصى، كان الشاب أسامة أحمد عطا يتردد، بين الحين والآخر، على والدته التي جاءت لتصلي في الأقصى. أسامة كان يسلم على والدته بحرارة، كأنه سلام الوداع، والذي لا تعرفه الوالدة، وطلبت منه أن يعود إلى المنزل معها؛ "لكن أسامة أخبرها بأن تعود هي وسيلحق بها"، يقول عم الشهيد أسامة، محمد عطا، لـ"العربي الجديد".
أسامة كذلك جرب سجون الاحتلال، قبل سنتين، حين قضى سنة من عمره في المعتقل بتهمة رشق دوريات الاحتلال ومركبات المستوطنين بالحجارة والزجاجات الحارقة، وهو من عائلة خبرت السجن كذلك منذ الانتفاضة الفلسطينية الأولى حيث اعتقل والده لمدة خمس سنوات وأبعد حينها إلى قطاع غزة، قبل أن يعود إلى رام الله بعد مجيء السلطة الفلسطينية، بينما ما زال شقيقه منصور (14 عاما) ينتظر محاكمته بعد اعتقاله قبل شهرين، أما شقيقه الأكبر محمد فهو أسير محرر اعتقل لمدة سنة ونصف السنة.
قرية دير أبو مشعل لم تسلم من سياسة العقاب الجماعي، والتي تنتهجها سلطات الاحتلال الإسرائيلي، فحصارتها قوات الاحتلال بعد ساعات على تنفيذ العملية، ووضعت بوابة حديدية على مدخلها الرئيسي، ومنعت الفلسطينيين من الدخول أو الخروج منها؛ إلا بتنسيق مسبق من خلال الارتباط الفلسطيني، وللحالات المرضية، أو لطلبة الثانوية العامة الذين يؤدون امتحاناتهم في هذه الفترة، والمراقبين عليهم؛ أما عائلات الشهداء الثلاثة فداهم الاحتلال منازلها وحقق ميدانيًّا مع أفرادها، ومن ثم أخذ الاحتلال قياسات المنازل تمهيدًا لهدمها، بعدما هددتهم قوات الاحتلال شفويًّا بذلك.