منغصات الكتابة باليد اليسرى

07 أكتوبر 2018
رولا أبو صالح/ سورية
+ الخط -

يطيب لي؛ بعد سنوات طويلة من الكتابة، أن أنظر إلى ذلك الطفل الذي لم يكن قادرًا على فكّ الحرف إلا بصعوبة؛ وهو يفتح دفتر النسخ ويبري قلم الرصاص، ثمّ ينكبّ على الدفتر ذي الورق المسطّر؛ ليكتب أوّل حروف اللغة.

كتب له المعلّم خمسة حروف موزّعة على السطر الأوّل في رأس الصفحة؛ وعليه وهو في الصفّ الأوّل الابتدائي أن ينسخها على امتداد الصفحة كي لا يتعرّض للعقاب. كان مصطلح: الوظيفة المدرسيّة، جديدًا على قاموسه اللغوي، وله في نفسه وقعٌ غير مريح.

كان الطفل يجتهد قدر الإمكان لكي تأتي الحروف التي ينسخها قريبة الشبه من تلك التي كتبها المعلّم في رأس الصفحة، لكنّها كانت تميل كلّما أوغل في الكتابة، وهو الأمر الذي لم يعجبه، فلم يقم بأيّ جهد للتعديل، إذ يكفيه أنّه التزم بإنجاز الوظيفة المدرسيّة، ولن يغضب المعلّم منه وهو يرى الحروف المائلة عن مسارها الصحيح.

وكان يمكن للأمر أن ينتهي من دون منغّصات والطفل يمارس الكتابة بيده اليسرى؛ لولا أنّ الجدّ الصارم لم يكن يشعر بارتياح. ولطالما قال للطفل بحزم وإصرار: عليك أن تكون من أهل اليمين.

وراح يحثّه على الكتابة بيده اليمنى. ولتحقيق ذلك؛ كان يلجأ إلى حشر كفّ الطفل اليسرى داخل كمّ القميص، ثمّ يربط طَرف الكمّ بخيط من قنّب متين، فلا يستطيع الطفل تحرير كفّه، ما يجعله مضطرًّا لتعلّم الكتابة باليد اليمنى.

ظلّت محاولات الجدّ تتكرّر، والطفل يعاند الجدّ ولا يخضع لرغبته. يفكّ الخيط بأسنانه أو بمعونة من شقيقته أو أحد أقرانه.

شبّ الطفل، وأصبح ذلك الشابّ الذي ابتدأ كتابة القصص والمقالات بيده اليسرى وما زال، وأنجز حتّى الآن ما يقرب من ستّين كتابًا في القصة وفي أدب الرحلات والسيرة واليوميّات، وفي الرواية للكبار وللصغار.

كنتُ أنا ذاك الطفل.

وقد قلت ذات مرّة: الكتابة هي الرئة التي أتنفّس منها.

وقلت: عبر الكتابة؛ أصوغ حياتي على النحو الذي أريد.

وهكذا؛ أصبحت الكتابة، بعد تفرّغي لها، عملي اليوميّ وشغلي الدائم، وهي مبرّر حياتي وجوهر وجودي. ولا أظنّ أنّني قادر على الفكاك منها إلا بالموت، بل هي الردّ غير المباشر على الموت. وبغضّ النظر عن الموت، فلماذا أنفكّ من الكتابة وهي من أشرف الظواهر في حياة البشر؟!

وقلت: سأواصل كتابة الروايات والقصص، علاوة على كتابة مقالات ونصوص أتطرّق فيها إلى قضايا الناس وإلى ذاكرة القدس. سأتحدّث عن الأمكنة والمعمار وعن البشر والحياة اليوميّة في المدينة، عن الثقافة والعادات والتقاليد، عن ترييف المدينة وإعادتها إلى الوراء.

وسأشعر بالأسى وأنا أتذكّر أنّ المحتلّين الإسرائيليّين يخصّون القدس باهتمام منظّم مدروس، تفصح عنه الاحتفالات الثقافيّة والفنيّة الحاشدة التي يعقدونها في المدينة، وكذلك الكتب والروايات والأفلام المكرّسة لها. فأين نحن من كلّ ذلك؟ أين نحن من القدس؟!


* قاص وروائي فلسطيني من مواليد 1941

* نص من كتاب يصدر قريباً بعنوان "أنا والكتابة" عن "دار لوسيل" في الدوحة

دلالات
المساهمون