اللافتة الباهرة للقوى الوطنية الفلسطينية، التي لطالما كانت خطفت الوجدان في الربع الثالث من القرن العشرين، بهتت واضمحل تأثيرها العام. وهذا ينبهنا إلى أن القوى التي كانت تتقاسم تمثيل الشعب الفلسطيني، ولو على نحو غير منصف مع «فتح»، كانت قوى ثورية وأضحت مجرد تنظيمات سياسية.
وهذا يلفت انتباهنا، تالياً، إلى أن مؤسسات «الثورة الفلسطينية»، في شقها الرسمي السياسي، يميناً ويساراً، تورطت في عصر «المدراء التنفيذيين الفاحش» مبكراً، وربما قبل الولايات المتحدة، مع فارق أن ذلك في الحالة الفلسطينية لم ينتج موظفين ورجال أعمال من «طراز خاص» فقط، ولكنه أنتج جيلاً «جديداً من القادة السياسيين» الذين «استثمروا» في السياسة، وهيمنوا على الخيارات الوطنية الفلسطينية. ما أنتج تضارب مصالح ما بين دورهم الشخصي والمهمات الوطنية التي كان يفترض أن يؤدوها؛ مكررين في ذلك فاجعة فلسطينية تأسيسية تمثلت بالوضع غير السوي في أداء العائلات الإقطاعية الفلسطينية لدورها في محيط عام 1948.
ذلك، بالتأكيد، يضعنا أمام حقيقة أن إدارة الثروة ليست مهمة أقل خطورة من قيادة الثورة، وأن الاتجاه نحو الاستثمار واستيلاد رجال أعمال نافذين، لن يكون مجرد حيلة تكتيكية، ولكنه روح ستدب في النهج السياسي.
ومن جهة أخرى، فإن التأييد الواسع الذي كانت تحظى به الثورة الفلسطينية، وكان يحول حتى أبناء فئات وجنسيات غير متوقعة إلى ثوريين وأعضاء في حركة تحرير وطني، أضحى اليوم تأييداً لقضية فلسطينية «إنسانية»، تستقطب حقوقيين ودعاة حريات مدنية، ومنظمات مجتمع مدني.
وفي مسحة إيجابية محدودة للغاية، ترافقت هذه الظاهرة المأساوية مع خلق «مجتمع حقوقي» وبعض المنظمات المدنية الوطنية في الساحة الفلسطينية، تملأ على طريقتها المتاحة، وبحدود أفقها الموضوعي، فراغات تركتها وراءها التنظيمات السياسية التقليدية، المنضوية في ما كان موجوداً فعلاً ويسمى «منظمة التحرير الفلسطينية».
وهذا السياق يدفعنا للتدقيق قليلاً، لنقول إن الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات لم يؤد دورين فقط، بل ثلاثة. كان ونجح في أن يكون ابتداء الرمز التاريخي للقضية وثانيا قائداً للثورة الفلسطينية، ولكنه أيضاً أمضى البقية الباقية من حياته، منذ التوجه إلى التسوية السياسية، رئيساً لحزب مرحلة محمود عباس، الذي أوصل ليس فقط إلى التسوية، ولكن إلى تجميد منظمة التحرير لصالح «السلطة الوطنية» في التسعينيات.
وبعد «جنين»، التي كانت محاولة عرفات الكارزمية المستميتة الأخيرة لاستعادة أهداب الهوية الثورية، توجب إرساله إلى التقاعد. ولكن هذه كانت مهمة صعبة، لم يمكن حلها إلا بعوامل السن و«المحفزات الإسرائيلية» وتواطؤ «المدراء التنفيذيين» في «السلطة الوطنية».
وفي مقاربة أخرى، كان من الممكن أن تقاوم «حماس»، في ظل «السلطة الوطنية»، حالة تحولها إلى سلطة موازية. ولكن بما أن تعريف النصر والهزيمة في المرحلة الفلسطينية الأخيرة ملتبس ومرتبك، تحولت «الحركة» بخطوة مندفعة إلى سلطة، وتقمصت كل «غزة». وفي المحصلة، قادت إلى خلق ظروف لتقسيم وانقسام فلسطيني عمودي. وغدت الهوية الإسلاموية والقرب الثقافي من مصر أهم من العلاقة النضالية بين الفصائل في الساحة الفلسطينية.
ويمكن لنا هنا أن نلاحظ أن ذلك قاد إلى تغليب حسم أولوية «فتح» على «المنظمة»، وتقمص «فتح» لهوية «الضفة»، وتحول الأفق باتجاه السير مع الأردن الرسمي. ولكن «فتح» هنا لم تسلم أوراقها إلى عمان. وكان هذا سيكون فضيلة كبرى، لولا أنها قدمت هذه الأوراق لأطراف أسوأ بكثير، ما قاد إلى تصفية الطابع التحرري الثوري للقضية الفلسطينية، وتحويلها من قضية شعب ووطن إلى قضية إنسان وحقوق.
وفي الوقت الذي كان يفترض أن يتم تأميم «منظمة التحرير» وتمليكها للمجتمع الفلسطيني لتكون هيئة عامة تملك القرار النافذ على مصير السياسة والنخبة السياسية، ذهبت النخبة السياسية إلى الانتقال من «الثورة» إلى «السلطة»، ووضعت توقيعها على شهادة وفاة «المنظمة» ومؤسساتها ومحدداتها.
ولنتذكر، أن واقع «التسوية» خلق صعوداً مدوياً لحركة حماس، حتى خارج الفئات والشرائح التي تتوافق معها أيديولوجيا، وأبرزها كمنافس خطير قادر ليس للنخبة الفلسطينية التقليدية القادمة من إرث «منظمة التحرير»، ولكن كذلك لـ«السلطة الوطنية» التي جاءت بتفاهم النخبة الفلسطينية التقليدية مع قوى دولية، واتفاقية مع العدو «اسرائيل»، ويحميها في ذلك الوقت قبول دولي واسع.
ومرت مياه تحت الجسر منذ ذلك الوقت. وغرقت حركة حماس في وضعها كـ«سلطة» موازية، ودخلت في تفاهماتها الخارجية الخاصة. وأضحت في المحصلة تشترك مع «السلطة الوطنية» بقواسم مشتركة فادحة؛ وتماماً مثل «السلطة الوطنية» التي أكلت منظمة التحرير، أكلت سلطة حماس في غزة «حماس الأصلية».وفي هذا لحظة تعيدنا إلى الموقف الذي خذلت فيه «الثورة» الشعب، وخانت فيه «السلطة» مشروع الدولة، واستعدت المجتمع.
إنها نفسها اللحظة، التي مدت حماس بالتمدد والزخم الهائل، قبل أن تكرر نفس السيناريو وتواجه مصيراً مشابهاً. لذا، فالأفق الفلسطيني المغلق اليوم، يصعب أن ينفتح إلا على خيار آخر، يمكن البدء معه من جديد. شيء يشبه المأساة الكردية، التي أنتجت في البداية الحزب الديمقراطي الكردستاني، الذي استولد على خصومة حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، وهو ما قاد في النهاية إلى نشوء حزب العمال الكردستاني.
ولكن ليس متاحاً للفلسطيني أن يقبل بمجتمع يعيش في حزب، ولا بمقدوره أن يحظى بأحزاب تعيش في مجتمع.
الكارثة الكبرى، أن التنظيمات الفلسطينية في شقها الخارجي، ومنها التنظيمات التي تتمركز قياداتها في الخارج، تحولت إلى نواد للثقافة السياسية. وفي أفضل الأحوال، جمعيات تمارس «الرعاية» والوصاية على «جالية» (فلسطينية). وهذا يثير حنق السلطات في بلد، ويحظى بقبولها في آخر. ومن هنا، تستمد هذه التنظيمات، في الخارج، نفوذها ومعدل قوتها.
وهذا، واقع يجد له عناصر تشابه مع «السلطتين» الموجودتين في الداخل.
(كاتب أردني/ عمّان)
اقرأ أيضاً: خفّة المقاوم التي لا تحتمل