منظمة التحرير بين الإصلاح وإنتاج البديل

21 يونيو 2015
أحمد الشقيري، الرئيس الأول لـ م.ت.ف في غزة، 1965
+ الخط -

تبدو أحوال الفلسطينيين اليوم شبيهة بما قبل تأسيس "منظمة التحرير الفلسطينية" (الكيان الجامع)، الذي نهض بمهمة تأسيس هوية وطنية وتحديد برنامج عمل مشترك يناضل الفلسطينيون كشعب واحد من أجل تحقيقه، إذ عادت الهوية الوطنية لتبدو ممزقة من جديد، فيما يبدو "الشعب الواحد" شعوباً تنشغل بمعاناتها الاقتصادية والسياسة "المحلية".

إنه التجسيد الأمثل لأزمة "منظمة التحرير الفلسطينية"، التي تُضاف إليها أزمات متعددة ومتراكبة، أهمها أزمة التمثيل السياسي. ولا نقصد تمثيل الفصائل الفلسطينية، وخصوصا حركة حماس والجهاد الإسلامي، وإنما تمثيل كل أجزاء الشعب الفلسطيني.

تحيل أزمة المنظمة إلى أزمة المشاركة السياسية للفلسطينيين، وبهذا المعنى تبدو الأزمة قديمة، حيث عانت المنظمة سلسلة من أزمات التمثيل السياسي، كانت الأولى في لحظة تأسيسها سنة 1964، لتتتالى الأزمات لاحقاً بإحكام حركة فتح قبضتها على المنظمة التي لم تعرف تمثيلاً ديمقراطياً في أية سنة من سنواتها الحادية والخمسين.

اضطلع أحمد الشقيري، المحامي المخضرم والخبير بالسياسة ودهاليزها، بمهمة إجراء مشاورات عربية أفضت في النهاية إلى تأسيس منظمة التحرير ككيان سياسي للفلسطينيين.

وقد برزت أزمة التمثيل منذ ذلك الحين، إذ طالبت الهيئة الوطنية العليا، التي كان يترأسها، الحاج أمين الحسيني، بانتخابات في التجمعات الفلسطينية لانتخاب ممثلين عن كل تجمع. اتصل الشقيري بالتجمعات بالفعل، لكنه وفي نهاية المطاف استبعد التمثيل على أساس انتخابي، وفضل التمثيل على أساس عائلي وعشائري، بل اختار بنفسه أعضاء اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير.

يومها، وقفت حركة فتح ضد منظمة التحرير باعتبارها جسما تشكله الأنظمة العربية وتشرف عليه. وقد ذكر صلاح خلف، (أبو إياد)، في مذكراته أنه حاول مع ياسر عرفات إقناع الشقيري بأن "منظمة تتشكل من فوق ستكون غير فعالة إذا لم تتمتع بدعم القاعدة الفعال".

مع ذلك، لم تقاطع حركة فتح المؤتمر الفلسطيني الأول، واختارت "التسرب إلى داخل منظمة غنية وقوية للإفادة من الوسائل التي تتمتع بها" على حد تعبير أبو إياد. وبالفعل، استطاع ياسر عرفات أن يصبح رئيساً لمنظمة التحرير بعد خمس سنوات فقط على تأسيسها، وأحكمت حركة فتح قبضتها على المنظمة، لتبدأ أزمة تمثيل أخرى، ولتحافظ المنظمة في زمن أبو إياد على آلية التمثيل "من فوق" التي كان ينتقدها.

ورغم أزمة التمثيل، التي أحدثت إضرابات وتوترات عديدة داخل المنظمة، وخصوصا بين حركة فتح والجبهة الشعبية، (وصلت إلى حدود الدعوة لتأسيس منظمة بديلة)، لكن منظمة التحرير بقيت تلعب دوراً فاعلاً في الساحة الفلسطينية حتى توقيع اتفاق أوسلو سنة 1993.

هكذا تطورت المنظمة على قاعدة هيمنة حركة فتح، مما أدى إلى تراجع دورها مع تأسيس السلطة الفلسطينية وضعف دور حركة فتح. ومما يدل على ذلك أن المؤتمر الوطني الخامس لحركة فتح عقد في تونس سنة 1989 وتسارعت بعده التحضيرات لاتفاق أوسلو، ودخلت حركة فتح في حالة من الركود والسلبية وعقدت مؤتمرها التالي بعد عشرين عاماً، سنة 2009.


محاولات الإصلاح والإحياء

لا يزال كثيرون، وخصوصاً من حركة فتح، يعيشون في ظلال تلك العلاقة الاندغامية بين الحركة ومنظمة التحرير، ويعتقدون أن تفعيل المنظمة غير ممكن من دون عودة دور فاعل للحركة.

"إحياء" منظمة التحرير هو التعبير الشائع الذي يستخدم للتعبير عن أزمة المنظمة، وهي مقاربة لا تؤمن بالجديد الذي يخلف القديم، فالمطلوب هو "إحياء" المنظمة وليس استبدالها، بل إن الحديث عن جسم سياسي بديل للمنظمة كان موضع تشكيك وتخوين من قبل مختلف الفصائل الفلسطينية وليس فقط حركة فتح، إذ بقيت المنظمة تحظى بتقديس خاص حتى وهي ميتة.

استمدت المنظمة ذلك التقديس من صراعها مع بعض الأنظمة العربية التي أرادت دوماً الهيمنة عليها وتسخيرها لخدمة مصالحها الضيقة (حافظ الأسد أنموذجاً). لكن التقديس استخدم أيضاً كذريعة لقيادة المنظمة من أجل تكريس الهيمنة.

وفي نفس السياق، يستخدم مصطلح "إصلاح المنظمة" وهو، كما المصطلح السابق، يبتغي فاعلية ما للمنظمة بصرف النظر إن كانت تلك الفاعلية المنتظرة سوف تفضي إلى قدر أكبر من التمثيل والمشاركة السياسية لمختلف أطياف الشعب الفلسطيني. الحقيقة أن سؤال التمثيل والمشاركة على مستوى الشعب غير مطروح أساسا في مبادرات "الإصلاح" و"الإحياء"، بل المطروح هو تمثيل ومشاركة "عادلة" لمختلف الفصائل الفلسطينية وخصوصا الإسلامية منها.

من سمات "الإصلاح" أنه، وفي معظم الحالات، يكون من أجل تدعيم ما هو موجود بالفعل دون المساس بجوهره. ومع ضرورة ملاحظة أن "الإصلاح" درجات، ويمكن في إحدى درجاته أن يؤدي إلى تبديل الجوهر في ظروف معينة، لكن "الإصلاح" المنشود من قبل القوى الفلسطينية لا يبدو أنه من هذه النوعية على الإطلاق، بل يبدو الإصرار على أن يكون النظام السياسي الفلسطيني عبارة عن تجميع لكل التنظيمات الفلسطينية في جسم قديم هو منظمة التحرير. وفوق أنه جسم سياسي بدون تفويض شعبي مباشر، فسيتشكل من فصائل غارقة بأزمات ضعف المشاركة السياسية والتمثيل الديمقراطي لكوادرها في داخلها.


توسيع التمثيل أم إيجاد بديل؟
في سياق السعي نحو إصلاح منظمة التحرير انطلاقاً من التفويض الشعبي وليس الحزبي الضيق، أطلقت سنة 2012 "حملة التمثيل الوطني الفلسطيني". كان الهدف المعلن هو تسجيل فلسطينيي الشتات لانتخابات المجلس الوطني وذلك لمعالجة أزمة التمثيل وفتح الباب لمشاركة الفلسطينيين في العملية السياسية عن طريق انتخاب ممثليهم بشكل مباشر.

يوضح الكاتب والباحث الفلسطيني، يوسف فخر الدين، لـ"فلسطين" أن الغاية المباشرة هي "إعادة تفعيل التمثيل الوطني بإجراء انتخابات المجلس الوطني"، لكن الهدف الأبعد للمشروع يتمثل في "تفعيل مشاركة الفلسطينيين في العملية السياسية عبر إحياء الهيئات والمؤسسات الشعبية للمنظمة، وتفعيل النضالات المطلبية وهو ما يمكن أن يقود إلى تمتين العلاقات التضامنية التكافلية بين الفلسطينيين".

هكذا، وبحسب فخر الدين، الذي كان من المشاركين في الحملة "يمكن للحركة الشعبية أن تنتج برنامجها ووعيها استنادا إلى حقوقها وبالتفاعل الواسع بين مكوناتها، إذ ليس المطلوب وضع برنامج للناس، وإنما تفعيل العملية السياسية التواصلية لينتج الناس بأنفسهم برنامجهم، وأيضا ليفعلوا أطر منظمة التحرير الشعبية وينتجوا أطراً أخرى إن احتاجوا إلى ذلك".

وحول الإمكانية العملية لتطبيق ذلك، يشير فخر الدين إلى أهمية "الحراك الشعبي المحدود الذي حصل بهذا الخصوص، ولكن الجدي والفاعل، والمطالب بالتمثيل الوطني"، كما يشير إلى وجود "تجارب لانتخابات عبر التسجيل الإلكتروني يمكن الاستفادة منها عند انتزاع حق الانتخاب المباشر، إذ إن القوى السياسية الفلسطينية واجهت، كلٌّ لأسبابه، هذه المطالب.

وما فعلته يبين أنها رأت في هذه المطالب(ربيعا فلسطينيا)، وفي الواقع هي كذلك. وهو ما يناقض مصالحها بالضرورة، بما هي نظام سياسي فاسد ومتكلس، واستبدادي حسب النموذج الفلسطيني".

في المقابل، يقول الباحث الفلسطيني، ناصر عليوة، إن هناك من يعتبر أن "إصلاح منظمة التحرير لم يعد ممكناً إلا في إطار الرومانسية السياسية، لأنها لم تعد موجودة لا كفعل ولا حتى كقيمة أخلاقية ومعنوية للفلسطينيين، فالأجسام السياسية تموت كما يموت آباؤنا وأجدادنا فيما يبقى السؤال: ماذا يمكن أن نصنع نحن لحاضرنا ومستقبلنا؟".

هكذا فالمطلوب، بحسب عليوة، هو "إعادة إنتاج إطار سياسي فلسطيني جديد يأخذ بعين الاعتبار مجمل التغيرات الراهنة والمستقبلية، كما يعمل على تجاوز الأمر الواقع الذي فرض علينا وحولنا إلى تجمعات سكانية متناثرة لا يجمعها مصلحة أو هدف مشترك".

غير أن عقبات كثيرة تعترض محاولات تأسيس نظام سياسي فلسطيني جديد. ومنها هالة القدسية، التي أضفتها الفصائل الفلسطينية على منظمة التحرير، والتي تعتبر دعوات إنشاء بديل عنها بمثابة خيانة وطعن في الإنجاز التاريخي الذي حققه الفلسطينيو،.

فيما يعتبر عليوة أن "على الشعوب أن تحترم تاريخها وإرثها السياسي ولكن ليس عليها أن تقدس أدواتها النضالية، فالمنظمة هي أداة لتجميع القوى الفلسطينية وإدارة الصراع مع إسرائيل، وجميع الدول تنتقل من شكل سياسي إلى شكل آخر أثناء تطورها، ولسنا استثناءً في هذا الصدد".

أما التحدي الآخر والأبرز فهو الإرادة الدولية والإقليمية التي تمانع تأسيس نظام سياسي بديل، وتفضل الإبقاء على النظام الحالي. وفي هذا الإطار، "ليست القوى الفلسطينية المهيمنة حالياً، بما فيها الإسلامية التي لا تزال خارج المنظمة، قادرة على مواجهة هذا التحدي" يقول عليوة، ويضيف:

"على الحراك الشعبي الفلسطيني في كل مكان أن ينهض بمهمة تشكيل إطار سياسي جديد يكون خارج إطار المألوف، وذلك من دون التعويل على المنظومة السياسية القائمة، التي باتت إرثاً من الماضي، ولا يمكن أن تكون جزءاً من المستقبل".


(باحث فلسطيني سوري/ كندا)

المساهمون