منطقة شائكة

13 ديسمبر 2014

تبدو العلاقات الإنسانية، على اختلاف مسمياتها، منطقة شائكة (Getty)

+ الخط -

مع التسليم بأهمية المشتركات الكثيرة بين البشر من خلفيات ثقافية، وتاريخ وجغرافيا وبيئة ومعتقد وملامح وجينات، إلا أن حساسيات البشر وطرائق تعاطيهم مع تفاصيل الحياة الكثيرة، ومستجداتها، ووسائل تعبيرهم عن ذواتهم، وكيفية تصرفهم في الأحداث المفصلية من مناسبات وأفراح وأحزان وآليات إدارتهم الأزمات تختلف، بشكل كبير، بين فرد وآخر، مهما كانوا متقاربين، حتى لو كانوا نزلاء البطن ذاته، وهو بستان، كما يؤكد المثل الشعبي، مختصراً ببلاغة فكرة الخصوصية الفردية. هذه مسألة بديهية، لا تحتمل الجدل، فلكل شخص بصمته الروحية، وهي تخصه وحده، وسوف تلازمه طوال حياته، مهما تشعبت معارفه وتطورت شخصيته، أو تعرضت لتأثيرات مختلفة، كما يذهب خبراء علم النفس إلى أن ملامح الشخصية الأساسية تتحدد منذ سن السادسة، ما يعني ذلك أنه، ومنذ مرحلة مبكرة جداً، يمتلك كل منا مزاجه الخاص وطباعه ودرجة حساسيته وميوله وعاداته وطريقته في الانفعال والتفاعل، وذلك كله ما يميزه عن الآخرين، وما يمنح شخصيته تفردها وعلامتها الفارقة.

من هنا، تبدو العلاقات الإنسانية، على اختلاف مسمياتها، منطقة شائكةً، عصية على التفسير أحياناً، لأنها مبنية على أساس التناقضات، إذا سلمنا، حين الغوص إلى مستوى أعمق في عوالم النفس البشرية، بالغة الغموض والتعقيد، أن مبدأ التطابق بين طبائع الأفراد غير موجود في الواقع، قد تبدو لوهلة حالة التوافق في الطباع والأمزجة بين الأفراد مريحة، وتكاد تخلو من المتاعب، غير أنها تنطوي على ملل ورتابة، لافتقارها عناصر الغموض والتشويق والدهشة التي تعطي العلاقة الإنسانية معناها الخاص، ليس من السهل الخوض في مواصفات ومقاييس أي علاقة، سواء كانت علاقة حب أو صداقة أو زمالة، أو حتى أخوّة، ولا يمكن، بأي حال، اقتراح مجموعة أنظمة وقوانين محددة لكيفية إدارتها، لأنها قائمة على التضاد، من حيث المبدأ.

تشهد البيوت حالات صعبة، حيث تتضارب الأمزجة بين أفراد العائلة والأزواج، بطبيعة الحال. ويتنافر كذلك الإخوة، ولا سيما المراهقين منهم. وغالباً ما يعاني الآباء من مشاجراتٍ لا تنتهي بين الأبناء، تكون أسبابها سخيفة من وجهة نظر الوالدين، مصيرية وجدية وحاسمة، من وجهة نظر الأبناء. ولا يختلف الأمر في مواقع العمل، إذ يتنافر الزملاء فيما بينهم، ودائماً ثمة من يسرق جهد الآخرين، ويجيّره لنفسه، فيكرهه الجميع. وهناك من يعاني من الاضطهاد، وهو دائم الشكوى والتذمر، من تجبر المسؤول، حتى على صعيد الصداقة، وهي العلاقة الأكثر حرية، على الإطلاق، كونها ذات طابع اختياري طوعي، فإنها تتعرض لانتكاسات وإخفاقات، ولا ينجو حتى العشاق من أعراض التنافر والتباعد والتناقض كذلك.

وهناك النموذج المبالغ في إقباله على الحياة، فيفرض نفسه على الآخرين، مقتحما خصوصياتهم، غير عابئ برغبتهم في الصمت والعزلة، وبعدم امتلاكهم الحماسة ذاتها لتوسيع دائرة علاقتهم الاجتماعية، لأنه عاجز عن تقبل فكرة أن بعضهم لا يرغب في هذه الصداقة. ثمة نموذج أكثر صفاقة لمتطفلين إلكترونيين، هؤلاء لا يتوانون عن اقتحام خصوصية الآخرين عنوة، محاولين فرض صداقتهم من طرف واحد، بقوة التكنولوجيا!

وبالنتيجة، لا توجد وصفة سحرية يمكن للجميع اتباعها للحفاظ على علاقات إنسانية متوازنة، يتوفر فيها شرط الندية والتواصل الحقيقي، تحفظ للشخص كرامته، وتحافظ على خصوصية الآخرين، إذ على كل منا التوصل إلى وصفته الخاصة، فيقبل على العلاقة بأناقة واحترام ورقي، أو يدرك بحساسية عالية أنه شخص غير مرغوب به، فينسحب بكبرياء وترفع، ملتزماً حدود المساحة النفسية التي يريدها الطرف الآخر حقاً طبيعياً، لا يحتمل المساومة!

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.