وهذا نص المقابلة:
يستحيل الفصل بين السياسة والاقتصاد، فهما متلازمان وبينهما علاقة تبادلية، ويخدم كل منهما الآخر، أو يؤذيه إيذاءً شديداً إذا لم تتّصف إدارة كل منهما بالحصافة والحذر.
والاقتصاد الأردني كان، ولا يزال، يتأثر بالأوضاع الإقليمية والدولية سلباً أو إيجاباً، وكان آخرها تفجير خط الغاز المصري مثلاً، والذي كان يزوّد المملكة بالغاز المستخدم في توليد الكهرباء، والذي توقف تماماً الآن، ما أدى إلى ارتفاع كلفة توليد الكهرباء نتيجة لاستخدام الوقود الثقيل بدلاً منه، ما أضاف أعباءً مرهقة على الموازنة العامة وعلى مديونية الأردن.
وفي الوقت الحالي، تلقي الأزمة الإقليمية بتبعاتها على المنطقة برمتها، بحيث أدت إلى تعطيل خطوط التجارة الدولية البرية بين الأردن ولبنان وتركيا وأوروبا، ما رفع أكلاف الاستيراد والتصدير. كما أن تدفق اللاجئين السوريين وأعباء استضافتهم، أرهقت الاقتصاد الوطني، ناهيك عن أن المحافظة على أمن الحدود والجاهزية العسكرية اللازمة لذلك، مسألة مكلفة أيضاً.
ونتيجة كل ذلك، تأتي قرارات حكومية لمعالجة الوضع الاقتصادي، ربما تكون غير شعبية، مثل رفع الدعم عن السلع، والتعديلات في قانون الضريبة، وزيادة تعرفة الكهرباء، لكن انخفاض أسعار النفط أخيراً خفف من هذه الضغوط عبر تخفيض أسعار المشتقات النفطية وانعكاس ذلك على المستهلكين.
*ينظر اليوم إلى تحسّن الوضع الاقتصادي على أنه المخلّص، ما رأيك بهذه التحليلات السائدة؟
هناك تحسّن تدريجي في الاقتصاد، ففي عام 2014 وصل النمو إلى 3.1%، ويتوقع أن يرتفع إلى 4 ـ 5% في هذه السنة، 2015، وأن معدل التضخم وصل إلى 2.8% في نهاية عام 2014، وربما لا يتجاوز 3% في المدى المتوسط... وتقلّص عجز الحساب الجاري، باستثناء المنح، إلى 12.1% من إجمالي الناتج المحلي في عام 2014 بعد أن سجل 17.1% في عام 2013، ومن المتوقع أن ينخفض إلى 10.6% نتيجة لانخفاض أسعار النفط. والاحتياطيات الدولية من العملات الأجنبية في مستوى مريح بنحو 14 مليار دولار، ومن المتوقع أن ينخفض الدين العام في سنة 2016.
ولكن بالطبع لا تزال معدلات البطالة تراوح مكانها حول 12 -13 %، وهذا مصدر قلق على المستوى الوطني، ومن الممكن حل نصف المشكلة على المدى المتوسط بإحلال الأردنيين المتعطلين عن العمل محل العمالة الوافدة المناظِرة لهم في المستوى التعليمي والمهني.
*أمام الاقتصاد الأردني أربعة تحديات مزمنة هي: خلل الميزان التجاري وعجز الموازنة والفقر والبطالة، ما هو توصيفكم للحل؟
صحيح أن الميزان التجاري يعاني من عجز مزمن يعكس تفوّق قيمة المستوردات على قيمة الصادرات، والحل يكمن في تعظيم الاستفادة من المزايا النسبية للمملكة في تجارة الخدمات والخدمات المالية والمصرفية، وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات.
أما عجز الموازنة، فينشأ من عدم قدرة الاقتصاد على توليد الإيرادات الكافية لتغطية النفقات الحكومية بشقيها الجارية والرأسمالية. لذا، فإن الحل هنا يجب أن يركز على ترشيد الإنفاق الحكومي، وترشيق الجهاز الحكومي، وإعادة هيكلة الدعم بحيث لا يكون للسلعة بل للمواطن، وتحفيز الاستثمار الذي في نهاية الأمر يعزز الإيرادات العامة، ويساهم كذلك في خلق الوظائف لاستيعاب طالبي العمل.
لا بد من تحقيق نمو اقتصادي حقيقي يفوق 6%، كي يتمكن الاقتصاد من توليد فرص العمل الكافية لاستيعاب الداخلين الجدد إلى سوق العمل، وكذلك استيعاب العاطلين من العمل. وفي حين أن النمو الاقتصادي يتكفل بحل مشكلة البطالة، إلا أنه لا يمثل إلا حلاً جزئياً لمشكلة الفقر التي تتطلب استراتيجية أكثر عمقاً وتركيزاً على جيوب الفقر بالاستثمار في ما تتمتع به تلك المناطق من مزايا نسبية، ودعم المشاريع الإنتاجية الميكروية والصغيرة والمتوسطة فيها، وتمكين أصحابها من التمويل الميسّر.
*لدى المملكة 6 مناطق اقتصادية خاصة، جذبت استثمارات بلغت المليارات. غير أن المواطن لم يلمس انعكاسات إيجابية لهذه الاستثمارات أدت الى تحسين وضعه المعيشي، كيف تفسرون ذلك؟
تهدف المناطق التنموية بلا شك إلى تحقيق العدالة الاجتماعية وتوزيع مكتسبات التنمية بعدالة بين المحافظات، وخلق نواة في كل منطقة للأنشطة الاقتصادية والاجتماعية استناداً إلى الميّزات النسبية والتنافسية فيها، بما يؤدي إلى تعزيز النمو الاقتصادي، وخلق فرص العمل لأبنائها، والحد من الفقر فيها.
وعلى الرغم ممّا تحقق من إنجازات في بعض المناطق التنموية من حجم استثماري كبير، إلا أنه لم يساعد في تخفيف حدة الفوارق التنموية الاقتصادية والاجتماعية بين المحافظات، ناهيك عن أن غالبية المشاريع في هذه المناطق تستخدم العمالة الوافدة بذريعة أنها تحتاج إلى مهارات فنية للعمل في هذه المشاريع لا تتوافر في من يبحثون عن عمل من الأردنيين.
وربما يكمن الحل لهذه الإشكالية في اختيار إقامة مشروع كبير يناسب الموارد المتاحة في المحافظة، يستفيد ممّا تتمتع به من مزايا نسبية وتنافسية. ثم تتبع ذلك مشاريع صغيرة ومتوسطة ذات ارتباطات أمامية وخلفية بالمشاريع الكبيرة في المحافظات، الأمر الذي يسهم في توليد فرص العمل ومكافحة البطالة والفقر فيها.
* انتقل الأردن إلى مرحلة جديدة على طريق الإصلاح الشامل، كيف تصفونها؟
إن كلمة "انتقل" في سؤالكم لا تعبّر عن مسيرة الإصلاح التي تُعَدُّ عملية متواصلة. واستطاع الأردن، وبحنكة قيادته وتماسك شعبه، من عبور الأزمة العربية السياسية الحالية، والخروج منها أقوى ممّا كان عليه، من خلال جملة من الإصلاحات السياسية، كان من أبرزها إجراء تعديلات دستورية جوهرية، إضافة إلى إنشاء المحكمة الدستورية، وتشكيل الهيئة المستقلة للانتخابات.
وفي مجال تعظيم دور المرأة والشباب في عملية صنع القرار، انتهجت الحكومة سياسات عديدة تضمن مشاركتهم في الحوار الوطني التشاوري. وفي هذا الصدد، فإن المجلس الاقتصادي والاجتماعي قد بادر إلى إنشاء منبر للشباب، وعمل على تعديل نظامه بإضافة مجموعة جديدة في عضويته تضم فئة الشباب، سيبدأ تطبيقها بعد انتهاء الدورة الحالية للمجلس في سنة 2017. كما قام المجلس بتشكيل لجنة تمكين المرأة لضمان مساهمة المرأة ومشاركتها في عملية صنع القرار. وبهذا المفهوم، تُعدُّ الإصلاحات التي قام بها الأردن جوهرية، مهّدت الطريق لاستمرار هذه العملية على نحو تدرجي وآمن.
*لكن بعض الاقتصاديين يرون بأن الأردن بحاجة إلى مزيد من الإصلاحات، برأيكم هل يتم العمل في هذا الاتجاه؟
لا بد أن تراعي عملية الإصلاح الاقتصادي ظروف المرحلة أو الدورة الاقتصادية وتتكيّف معها. وقد دخل الأردن في عدد من برامج التصحيح الاقتصادي وإعادة الهيكلة منذ سنة 1989 ولغاية الآن. وكانت معظم هذه البرامج متفق عليها مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.
وعلى الرغم من أهمية هذه البرامج، إلا أن منهجية الإصلاح المطلوبة تحتاج إلى توصيف مختلِف أو مكمّل لمنهجية المؤسسات الدولية. فهذه المؤسسات تتجنب التعامل مع جانب تحفيز الاستثمار المؤدي إلى النمو وخلق الوظائف، وحماية الفئات الاجتماعية المتأثرة بنتائج برامج الإصلاح. ومن هنا، يتوجب التوقف عند هذه المسألة، ومقاربتها برؤية وطنية. وأعتقد أن الرؤية العشرية التي طالب جلالة الملك بها الحكومة هي في صلب التفكير الاستراتيجي لتبني برامج إصلاح وطنية مستمرة وعابرة للحكومات، ومستندة إلى نهج تشاركي وتشاوري مع مختلف مكونات المجتمع.
*يغذي الحاجة لهذه الإصلاحات أيضاً ما يُعتقَد أنه الهدر في المال العام، والتقاعس عن تحصيل الأموال الحكومية من متأخرات ضريبية وغيرها، كيف تقيّمون فاتورة الهدر خلال السنوات الأخيرة؟
يشمل الإصلاح الاقتصادي بالطبع التعامل مع الهدر حيثما وجد. وقد قام المجلس الاقتصادي والاجتماعي بإعداد دراسة علمية منهجية حول التهرّب الضريبي. وقدّرت الدراسة حجم الفاقد الضريبي بنحو 1.9 مليار دينار، ويشمل الفاقد، بالإضافة إلى التهرب الضريبيّ كلاً من الإعفاءات الضريبية البالغة 834 مليون دينار، والمتأخرات الضريبية البالغة نحو 370 مليون دينار، الأمر الذي يضع حجم التهرب الضريبي عند ما يقارب 695 مليون دينار. أما حصة التهرب من ضريبة الدخل والأرباح، فبلغت نحو 200 مليون دينار، في حين بلغت حصة التهرب من ضريبة المبيعات نحو 495 مليون دينار.
*عدد من المسؤولين طالتهم شبهات الفساد في فترات مختلفة، كيف يمكن أن نرى الأردن نظيفاً بلا فساد؟
قطع الأردن شوطاً كبيراً في هذا المجال، ويسعى لمواءمة تشريعاته مع المعايير الدولية لمكافحة الفساد، وتم إنجاز الكثير في هذا المجال. وقد شكلت لجنة ملكية للنزاهة لمتابعة تطبيق ميثاق منظومة النزاهة في المملكة، والتي أتشرّف شخصياً بعضويتها، حيث تعكف اللجنة الآن على وضع الآليات العملية لتطبيق ميثاق منظومة النزاهة الوطنية من خلال تشريع ملزم. وفي نهاية الأمر، لا تستطيع أن تجد دولة خالية كلياً من الفساد، لكن ما نطمح إليه هو الحد من الفساد ومحاربة جميع أشكاله بكل الطرق المتاحة، وهو الأمر الذي كرسته الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد للسنوات 2013 ـ 2017.
ضعف الإنتاجيّة مشكلة بنيويّة
يقول رئيس المجلس الاقتصادي الاجتماعي، منذر الشرع، لـ"العربي الجديد"، إن المقاييس الدولية المعروفة، مثل نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، تشير إلى تحقيق الأردن تقدماً ملموساً خلال السنوات الماضية. فقد ارتفع متوسط معدل دخل الفرد في الأردن من 2700 دولار سنة 2006 إلى نحو 5000 دولار لسنة 2014. ولكن السؤال، هل هذا التطور الإيجابي جاء نتيجة اقتصادٍ أقوى أم تنافسية أعلى؟ ويجيب: "الجواب، للأسف، ليس ما نرغب به، حيث إن ترتيب الأردن على مؤشر التنافسية الدولية قد تراجع بنحو عشرين درجة خلال السنوات الست الأخيرة، من المرتبة 48 إلى المرتبة 68. وقد جاءت المكاسب المتحققة من خلال زيادة الإنفاق العام دون زيادة حقيقية في الإنتاجية".
ويلفت الشرع إلى أن برامج الإصلاح الاقتصادي والتكيّف الهيكلي التي مرّت بها المملكة، وآخرها تنتهي هذه السنة، لم تهتم بشكل كافٍ بجانب العرض لتعزيز بيئة الاستثمار وتحقيق نمو اقتصادي يخلق فرص عمل جديدة. ويؤكد أن الحكومة تعكف الآن على إنجاز الرؤية الاقتصادية العشرية للمملكة، 2015 ـ2025 ، التي أوعز بها جلالة الملك عبد الله الثاني بن الحسين، وقريباً سترى هذه الرؤية النور وتوضع موضع التطبيق وتكون عابرة للحكومات.
بطاقة
الدكتور منذر الشرع، حاصل على بكالوريوس اقتصاد وعلوم سياسية من جامعة بيروت العربية، والدبلوم العالي في الدراسات الإدارية من كلية برايتون التكنولوجية البريطانية، والدكتوراه في الاقتصاد من جامعة ويلز. وقد شغل منصب وزير التنمية السياسية، ووزير المياه والري بين عامي 2004 و2005.