تغيّر شكل المدينة في المنطقة العربية خلال الحقبة الكولونيالية، لتتبع قسراً النموذج الأوروبي الحديث. ثم استلزمت الحياة المعاصرة تغيير الإنشاء التخطيطي لشكل المدينة.
وإلى جانب المدينة القديمة، نشأ مفهوم المدينة الحديث وعناصر التخطيط المعماري من أبنية حكومية وحدائق عامة وشوارع عريضة ونصب تذكارية.
مصر كانت سبّاقة في الحداثة مقارنةً مع باقي المدن الواقعة، آنذاك، تحت سيطرة الإمبراطورية العثمانية والتي خلت، تقريباً، من النصب التذكارية. نستثني الأعمال التي لا تحتوي على معالم تشبيهية كالنصب الذي أقيم بمناسبة افتتاح خط التلغراف بين دمشق ومكة والموجود في ساحة المرجة في دمشق، وهو من تصميم الفنان الإيطالي رايموندو دارنوكو.
نُصُب آخر يستحق الوقوف عنده، ويجسّد شخصية الوالي العثماني مدحت باشا الذي حكم العراق بين عامي 1869 و1872. أثار هذا النصب منذ وضعه في مدينة البصرة الكثير من اللغط، حيث أطلق مفتي بيروت عام 1910 فتوى تحرّم إنشاء تماثيل للموتى، معتبراً أن الاقتداء بالنموذج المصري أمر مرفوض كلياً.
ويبدو أن هذه العدوى تسلّلت إلى مصر لتقوم مجموعة من علماء الدين المصريين بإصدار فتاوى تحرم إنشاء النصب، داعين إلى إزالة هذه "الأصنام" الموجودة في ساحة الأزبكية في القاهرة.
تغيّرت الأمور بسرعة في مطلع القرن العشرين، وتم افتتاح مدرسة للفنون الجميلة عام 1908 في مصر، خرّجت مجموعة من الفنانين ممن تولّوا تصميم وإنشاء النصب التذكارية التي تكرّم أبطال الحركات التحرّرية، فنرى النحّات محمود مختار (1891ـ1934) ينجز تمثال سعد زعلول، حيث وضع نسختين من هذا النصب واحدة في القاهرة والأخرى في الإسكندرية، كما نرى نُصُباً أخرى لمختار تُعبّر عن مفاهيم مجرّدة مثل الحرية والأمّة؛ لعل أشهرها تمثال نهضة مصر (1928) التي جُسّدت على هيئة فلاحة يافعة (رمز مصر الحديثة) تنزع حجابها متحرّرة من التقاليد، تقف إلى جانب أبو الهول (رمز قوة مصر وعراقتها). هكذا كان مختار، الذي أكمل دراسته في باريس، أول نحات عربي يترجم الأفكار القومية إلى أشكال بصرية.
أمّا في بيروت، فقد برز النحات اللبناني يوسف الحويك (1883ـ 1962) الذي درس النحت في روما وباريس، وقام بإنجاز نصب تذكاري في عام 1930 تكريماً لذكرى شهداء 6 أيار 1916، من الوطنيين اللبنانيين الذين أعدمتهم السلطة العثمانية في الحرب العالمية الأولى.
الأمر في العراق مختلف قليلاً، فقد أقام الإنجليز لأنفسهم بعض النصب التذكارية التي تمجّد سلطة الاحتلال وتزيّن الساحات العامة في نفس الوقت. من أشهر هذه النصب في بغداد تمثال الجنرال ستانلي مود الذي غزا البلاد عام 1917، كما صنع النحات الإيطالي بيرتو كانونيكا نصبين عام 1933 الأول لعبد المحسن السعدون رئيس الوزراء الذي يقال إنه مات منتحراً عام 1929، والثاني للملك فيصل الذي كان يحكم العراق آنذاك، لكن الشعب هاجم التمثالين في ثورة 1958، وقد تم تحطيمهما.
وفي العراق الحديث، كلّفت الحكومة الفنان جواد سليم (1921ـ 1961) بتنفيذ نُصُب الحرية الذي افتتح بعد عام من وفاة الفنان. النصب عبارة عن سرد مصوّر يحكي تاريخ العراق، حيث يمزج سليم بين الرموز المستوحاة من الفترة البابلية والأشورية والسومرية القديمة وبين رموز حديثة تعبّر عن ثورة تموز عام 1958.
عندما استولى صدام حسين على السلطة أبدى اهتماماً واضحاً، أكثر من أي دكتاتور عربي، بالنُصب التذكارية، لتحتلّ تماثيله الفضاء العام (الطريقة الرمزية لفرض السيطرة على الحياة العامة).
ويعد نصب النصر ذي السيفين العملاقين، الذي أوكل تنفيذه، بدايةً إلى النحات خالد الرحال (1926ـ 1986) وأتمّ المهمة، بعد وفاته، النحات محمد غني حكمت (1929ـ2011)، أهمّ النصب المنجزة في الفترة البعثية والتي ترمز إلى "النصر" المتنازع عليه في الحرب مع إيران. فالسيفان يرتفعان فوق كومة من خوذ الجنود الإيرانيين، ويُقال إن صدام حسين هو من وضع التصميم الأولي لهذا العمل. كان المراد من هذا النصب العملاق والمتكلّف أن يُظهر ضآلة الفرد أمام جبروت الرئيس وعظمة المنظومة البعثية، فالساعدان الحاملان للسيفيين هما ساعدا القائد المنتصر.
ورغم أن النُصب، بوصفها أعمالاً ثلاثية الأبعاد تحدّد وتزيّن المكان إلا أنها كانت، وما زالت، غير مرحّب بها بشكل عام بوصفها تحيل إلى فكرة "الصنم" وأيضاً كون أغلبها يمجّد رموز الأنظمة العسكرتارية.
لذاك فمن غير المستغرب ألا تَسلم من غضب الجماهير نصب صدام حسين، بعد سقوط نظامه واحتلال العراق، وحافظ الأسد خلال الانتفاضة السورية، شأنها شأن أول نصب أنشئ في القاهرة في عام 1835 والذي يجسّد جوزيف سولكوسكي المساعد العسكري لبونابارت.